16 ابريل 2017
شيراك.. صديق العرب ومواطن أحبّه الفرنسيون
لا يمكن أن يكون الحديث عن جاك شيراك رئيسا لفرنسا أمرا عاديا، ما يعود، بشكل رئيسي، إلى شخصية الرجل التي جعلت منه الرئيس الأكثر شعبيةً في ولايته الأولى، في تاريخ الجمهورية الخامسة، والطريق الطويلة التي سلكها من أجل الوصول إلى الإليزيه، فشيراك الذي بدأ حياته السياسية وفيا لخط الرئيس، شارل ديغول، بقي محافظا على هذا الخط طوال مسيرته الحزبية، وفي المناصب الحكومية والمحلية التي شغلها، قبل أن ينجح عام 1995، في إنهاء السنوات الأربع عشرة للرئيس الاشتراكي، فرانسوا ميتيران، ويصبح "الضابط الأول" في القصر، كما تقول زوجته برناديت.
في طريقه إلى توحيد اليمين الجمهوري حول شخصه ومشروعه، قضى شيراك على كل خصومه (وأصدقائه) في الحزب الذي أسسه "التجمع من أجل الجمهورية" (RPR)، وهو ما أطلق عليه صحافيون فرنسيون آنذاك سياسة "تنظيف البيت الداخلي". عديدون كانوا ضحايا شيراك الذين تخلّص منهم بحنكة كبيرة، وأوّلهم جاك شابان-دلماس سنة 1974، عندما قرّر دعم جيسكار ديستان ثم ينقلب عليه سنة 1981، ويعطي أوامره لمحازبيه بدعم ميتيران سرّا في الدور الثاني.
الولاية الأولى
في نهاية الثمانينيات، كسر جاك شيراك "بلوك" الحركة التجديدية في حزب التجمع من أجل الجمهورية، ومنع إمكانية وصول شارل باسكوا (وزير الداخلية الأسبق) وفيليب سيغان، إلى قيادة الحزب، ليطيح رئيس الحكومة الأسبق إدوارد بالادور في "صراع الإخوة الأعداء" في الدور الأول من رئاسيات عام 1995. في تلك الفترة، برز صراع خفي بين تيارين يمينيين داخل الحزب، تأسّس على دعم شيراك أو بالادور في الانتخابات المقبلة، وارتكز، بشكل رئيسي، على الموقف من معاهدة ماستريخت وقيام الاتحاد الأوروبي. من بين الأسماء التي اصطفت مع بالادور آنذاك في وجه جاك شيراك، برز اسما فرانسوا فييون (المرشح الحالي
للرئاسة الفرنسية الذي هزم ساركوزي وجوبيه في الانتخابات الداخلية للحزب) ونيكولا ساركوزي الذي كان سنوات طويلة مسؤولا عن المكتب الشبابي الشيراكي. على الجهة الأخرى، أعلن آلان جوبيه دعم شيراك في وصوله إلى الإليزيه، وهو الذي يعمل معه في بلدية باريس منذ عشر سنوات مستشاراً إداريا، ويشاركه نزعة اجتماعية - ديمقراطية بومبيدوية (نسبة إلى جورج بومبيدو). في الوقت الذي احتدم فيه الصراع على اختيار مرشح موحّد لليمين الجمهوري، وفي ظل صعود تيار اليمين المتطرف، وسطوع نجم جان ماري لوبان، وتراجع الحزب الشيوعي الفرنسي، كان الحزب الاشتراكي قد أعلن، للمرة الأولى، عن انتخاباتٍ داخلية، نجح فيها ليونيل جوسبان في نيل 65% من أصوات المحازبين أمام هنري إيمانويلي الذي حظي بمنصب الأمين العام قبل أشهر، نتيجة دعم تيار لوران فابيوس في وجه دومينيك ستراوس- كان.
تخلى فابيوس عن دعم إيمانويلي في الانتخابات الداخلية، وأعلن الحزب عن ذهابه بمرشح موحّد هو ليونيل جوسبان.
وتكمن المفارقة أنّ مرشح الحزب الاشتراكي لرئاسيات 2017، بونوا هامون، كان المسؤول الطلابي الذي أوكلت إليه مهمة التعبئة الشبابية في حملة جوسبان آنذاك. ويستذكر مناصرو الحزب الاشتراكي تلك الانتخابات بأسىً، لأنهم ذهبوا من دون إمكانية إقناع الوجه الاشتراكي الأوروبي الناصع، جاك ديلور، والد الأمين العام السابقة في الحزب، مارتين أوبري، بضرورة خوض الانتخابات، لأنه كان يعتقد بعدم قدرة الحزب على تحصيل الأكثرية البرلمانية في الانتخابات التشريعية، ففضّل الابتعاد عن الترشّح.
تصدّر ليونيل جوسبان الدور الأول، وحلّ شيراك ثانيا، فيما خرج بالادور مهزوما، على الرغم من أنّ التوقعات كانت تشير إلى فوزه في الانتخابات، حتى أسابيع قليلة سبقت الدور الأول، لكنّ الحقيقة أنّ بالادور نفسه لم يكن يرى نفسه سوى الرجل الثاني في البلاد، أي رئيسا للحكومة. في 7 مايو/ أيار 1995، نجح جاك شيراك في الحصول على 53% من أصوات الفرنسيين، وأصبح الرئيس الخامس للجمهورية الخامسة.
وفشلت حكومة آلان جوبيه في التعاطي مع الضغط الشعبي، والمظاهرات الكبيرة التي اندلعت بعد إقرار سلسلة من القوانين، كان أبرزها قانون التقاعد، وخصخصة شركات عديدة، وتسريح آلاف الموظفين. وتغطيةً على الفشل الاقتصادي، حاول شيراك امتصاص الغضب الشعبي في معاودته إطلاق مشاريع التجارب النووية في المحيط الهادئ، وعمد إلى الاعتراف بمسؤولية فرنسا المشتركة عن جرائم النازية في الذكرى السنوية لمجزرة المضمار الشتوي التي ارتكبها النازيون بحق يهود باريس، وذهب ضحيتها 13 ألف يهودي في أثناء الحرب العالمية الثانية.
خارجيا، توجّه شيراك إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي أثناء الزيارة، عندما كان يهمّ لزيارة المسجد الأقصى، خارجا من كنيسة القيامة، تعرّض لمضايقاتٍ من الشرطة الإسرائيلية، ما جعله يغضب على الهواء مباشرة، فتوجّه للشرطة بالقول "هل تريدونني أن أغادر حالا إلى باريس؟". اللقطات التي نقلتها الكاميرا تصدّرت نشرات الأخبار الفرنسية والعالمية، وشكّلت رصيدا كبيرا لشيراك في البلاد العربية.
وكان لشيراك المساهمة الأهم في التوصل إلى السلام في البوسنة، وفي توقيع اتفاقية دايتون لإنهاء الحرب (تم توقيع الاتفاقية في الإليزيه في باريس)، وشهدت تلك المفاوضات أولى شرارات التوتر بين الإدارة الأميركية وشيراك على خلفية تأخر الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، في الموافقة على إصدار قرار أممي واضح يدعم مسلمي البوسنة ويحميهم، ويضع حدا للقائدين الصربيين، ميلوسوفيتش وكارازايتش، لكنّ حنكة شيراك وثقافته الواسعة ودبلوماسيته فرضت على كلينتون الموافقة على القرار في قمة الدول السبع الكبرى.
بناء على نصيحةٍ، وجّهها له السكرتير العام للإليزيه، ومخضرم الدبلوماسية الفرنسية، دومينيك دو فيلبان، وأمام الصعوبات التي تواجهها الأكثرية النيابية، أعلن جاك شيراك حلّ الجمعية الوطنية، ودعا إلى انتخابات تشريعية مبكّرة، كانت نتيجتها متوقعةً بعد التوجّه الذي قامت به المعارضة اليسارية إلى إنشاء تحالف انتخابي، تتوّجه بتحالف حكومي، تحت مسمّى "اليسار المتعدّد"، الذي ضم الاشتراكيين والشيوعيين والخضر ومجموعات يسارية راديكالية.
نجح اليسار في اكتساح الانتخابات، وحصل على ثلاثة أضعاف عدد مقاعد اليمين، وأصبح جوسبان، أكثر من أي وقت مضى، المرشح الأقوى للوصول إلى الإليزيه، في الانتخابات المقبلة، خصوصا مع تسريب فضائح مالية عديدة متعلّقة بوظائف وهمية، في الفترة التي كان شيراك يشغل فيها عمدة باريس، إضافة إلى دعواتٍ علنية لاستنطاق شيراك (تبناه نواب من اليسار في مقدمتهم أرنو مونتبورغ)، رفضها المجلس الدستوري الذي منح شيراك حصانة رئاسية.
الولاية الثانية
في الورشة الداخلية لحزبه الذي اتخذ اسما جديدا "الاتحاد من أجل حركة شعبية"، بدأت أسهم شيراك بالتراجع، وبدأ نجم نيكولا ساركوزي يسطع، لكنّ شيراك حافظ على قوته في الحزب بين سنتي 2002 و2004، عندما تولّى آلان جوبيه رئاسة الحزب، فيما كان ساركوزي يجهّز لانقضاض كامل على مفاصل الحزب في السنوات المقبلة، مدعوما بزخم الالتفاف اليميني حول شخصه، بعد أحداث الضواحي ومسؤوليته المباشرة عن إخمادها.
كانت العلاقة في السنتين الأخيرتين من حكم شيراك قد بدأت تتوتر مع جوسبان، عزّزتها الخلافات الداخلية حول حل أزمة "جنون البقر"، ومنع استعمال "الجيلاتين الحيواني"، والخارجية التي نشبت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، لكنّ تلك السنوات الطويلة من حكومة التعايش الثالثة شهدت إنجازاتٍ غير مسبوقة على الصعيد الرياضي، إذ استطاعت فرنسا أن تفوز بكأس العالم للمرة الأولى والوحيدة في تاريخها، وعلى أرضها، سنة 1998، تبعها الفوز ببطولة كأس الأمم الأوروبية سنة 2000. وشهدت حكومة جوسبان تحسنا ملحوظا في انخفاض نسبة حوادث السير، فانخفضت نسبة ضحايا الطرقات حوالي 40% (8500 مواطن نجوا من الموت، نتيجة الاهتمام بتحسين الطرقات والتشدّد في قوانين السير).
شهدت انتخابات 2002 مقاطعة شعبية هي الأكبر منذ عام 1962 (بدء الاقتراع العام المباشر)، قدّرت بحوالي 28% مع مشاركة 16 مرشحا في السباق نحو الإليزيه، لكنّ أحدا لم يتوقّع أن يصبح نهار 21 أبريل/ نيسان 2002 يوما تاريخيا، أسّس لفكرة "التصويت التكتيكي" لاحقا، وجعل من اليسار الفرنسي يعيد طرح الأسئلة مجدّدا حول غياب المشروع والبرنامج السياسي الذي جعل مرشح اليمين المتطرّف جان-ماري لوبان يتفوّق على مرشح الاشتراكيين، ليونيل جوسبان الذي فشل في توحيد اليسار حول ترشحه.
واثقا من نفسه، يوزّع الابتسامات منذ الصباح، وعارفا بوجوده الحتمي في الدور الثاني، أمضى ليونيل جوسبان وقت ما بعد الظهر في منزله، بعيدا عن صخب الإعلام والمحازبين. عند الساعة السابعة مساء، وبحسب الصحافية في "الإكسبرس" آن فيدالي، دخل جوسبان إلى المركز الانتخابي للحزب الاشتراكي قرب ساحة الجمهورية، وسط صمت رهيب. حضر فرانسوا هولاند، مارتين أوبري، بيار موسكوفيسي، لوران فابيوس، دومينيك ستراوس-كان وآخرون، من دون أن يجرؤ أحد على القول إنّ كارثةً وشيكةً ستحلّ بعد قليل. وبحسب فيدالي دائما "دفع جيرار لو غال، الخبير في الاستفتاءات والإحصاءات، الباب، وقال: ليونيل، أنت لست في الدور الثاني. شيراك الأول ولوبان ثانيا. يترك جوسبان الغرفة بوجه شاحب، وعلامات الصدمة لا تفارقه، ليصيغ خطاب الخسارة، ويعلن بجرأة لم تشهدها الحياة السياسية الفرنسية سوى مرة مع شارل ديغول، تحمّله الخسارة الكاملة وانسحابه من الحياة السياسية بشكل نهائي.
أصبحت عبارة "21 إبريل" تعني زلزالا سياسيا في فرنسا، وكثر لاحقا استعمالها للتدليل على "صفعة سياسية" تاريخية، تعرّض لها اليسار الفرنسي. غداة الخسارة وانسحاب جوسبان النهائي، خرجت تظاهرات في مختلف المدن الفرنسية ترفض وصول جان ماري لوبان إلى الدور الثاني، ووصل عدد المتظاهرين إلى مليون ونصف مليون ليل 22-23 إبريل، في ظل دعواتٍ من مختلف الأحزاب إلى المشاركة بكثافة في الدور الثاني، تصويتا لجاك شيراك. وفي
ظل رفض الأخير المشاركة في مناظرة تلفزيونية وجها لوجه مع لوبان، شكّلت تلك الفترة مرحلة جديدة في الوعي السياسي الفرنسي، شبّهها كثيرون بمايو 1981 عندما نجح الاشتراكيون في الوصول إلى الحكم للمرة الأولى.
حصل جاك شيراك على أعلى نسبة أصوات في تاريخ الجمهورية الخامسة (82%)، وانتخب رئيسا لولاية ثانية، كانت قد حدّدت سنواتها بخمس بدل سبع، بعد التصويت على القانون في الجمعية الوطنية سنة 2001. وجّهت أحزاب اليسار، وفي مقدمتها الحزب الاشتراكي، اتهامات مباشرة لبيار شيفينمان، وداعمه الكاتب والوزير السابق ماكس غالو، تحمّلهما مسؤولية خروج جوسبان من الدور الأول، وشكّلت تلك الخسارة خضة كبيرة في الشارع السياسي الفرنسي، يتخوّف كثيرون اليوم من تكرارها مع مارين لوبان في 23 أبريل/ نيسان المقبل.
طبعت الأحداث الخارجية الولاية الثانية من حكم شيراك، من التدخل في أفغانستان، فحرب العراق التي عارضها، مرورا باغتيال صديقه رفيق الحريري، وانقلاب موقفه من نظام الأسد في سورية، وإصراره على التوصّل إلى سلام فلسطيني-اسرائيلي. وعلى الرغم من ذلك، شهدت ولايته مشكلات داخلية عديدة، فقد عرفت حكومة بيار رافاران أزمة أمنية كبيرة "أزمة الضواحي"، عندما اشتعلت باريس غضبا، وأحرق سكان الضواحي آلاف السيارات والمباني، احتجاجا على مقتل طفلين في مبنى شركة الكهرباء، بعد ملاحقتهما من الشرطة الفرنسية. كما شهدت حكومة دومينيك دو فيلبان أزمة اقتصادية-اجتماعية، تمثّلت باحتجاجات شعبية كبيرة، رفضا لعقد الوظيفة الأول. واذا كان برنامج شيراك الانتخابي قد قام على محاربة التفاوت الطبقي، وايجاد حلول جذرية لـ "الشرخ الاجتماعي" الذي نظّر له المفكّر إيمانويل تود مطولا، فإنه فشل في خفض الدين العام والقضاء على البطالة، كما وعد، على الرغم من نجاحه في تحقيق نمو اقتصادي قارب 2,1% في 2006.
يبقى موقف شيراك الرافض لحرب العراق الأبرز من ضمن جملة مواقفه الخارجية، وهو ما جعله عرضة لانتقادات يومية في الصحافة الأنجلوسكسونية. ويبقى خطاب ممثل الدبلوماسية الفرنسية، دومينيك دوفيلبان، في مجلس الأمن وتصويته بـ "لا" مستخدما حق النقض (الفيتو)، عشية اجتياح العراق، الأقوى والأكثر تأثيرا في ذاكرة ملايين العرب الذين ثمّنوا هذا الموقف التاريخي لفرنسا. ولا ينسى مئات آلاف اللبنانيين دعم شيراك لهم في انتفاضة 14 مارس/ آذار 2005 التي جاءت لتسرّع تطبيق قرار مجلس الأمن 1559، القاضي بسحب القوات السورية من بيروت، إثر اغتيال رئيس الحكومة الأسبق، رفيق الحريري.
خرج شيراك من الإليزيه في العام 2007، في ظل احتدام الأزمة الاجتماعية، ووسط غليان في حزبه، أحسن استغلاله نيكولا ساركوزي، خرج مع شعبية قياسية في العالم العربي، ونظرة إعجاب وحب في أفريقيا، وفضائح مالية عديدة. وتفرّغ للعمل على إنشاء "مؤسسة جاك شيراك للتنمية المستدامة وحوار الحضارات". يعيش اليوم في منزل قدّمه له صديقه رفيق الحريري في الدائرة السابعة في باريس، مع زوجته برناديت، بعيدا عن الحياة السياسية، وكانت آخر مشاركاته إعلانه دعم آلان جوبيه لرئاسيات 2017، مقابل دعم برناديت ساركوزي.
في طريقه إلى توحيد اليمين الجمهوري حول شخصه ومشروعه، قضى شيراك على كل خصومه (وأصدقائه) في الحزب الذي أسسه "التجمع من أجل الجمهورية" (RPR)، وهو ما أطلق عليه صحافيون فرنسيون آنذاك سياسة "تنظيف البيت الداخلي". عديدون كانوا ضحايا شيراك الذين تخلّص منهم بحنكة كبيرة، وأوّلهم جاك شابان-دلماس سنة 1974، عندما قرّر دعم جيسكار ديستان ثم ينقلب عليه سنة 1981، ويعطي أوامره لمحازبيه بدعم ميتيران سرّا في الدور الثاني.
الولاية الأولى
في نهاية الثمانينيات، كسر جاك شيراك "بلوك" الحركة التجديدية في حزب التجمع من أجل الجمهورية، ومنع إمكانية وصول شارل باسكوا (وزير الداخلية الأسبق) وفيليب سيغان، إلى قيادة الحزب، ليطيح رئيس الحكومة الأسبق إدوارد بالادور في "صراع الإخوة الأعداء" في الدور الأول من رئاسيات عام 1995. في تلك الفترة، برز صراع خفي بين تيارين يمينيين داخل الحزب، تأسّس على دعم شيراك أو بالادور في الانتخابات المقبلة، وارتكز، بشكل رئيسي، على الموقف من معاهدة ماستريخت وقيام الاتحاد الأوروبي. من بين الأسماء التي اصطفت مع بالادور آنذاك في وجه جاك شيراك، برز اسما فرانسوا فييون (المرشح الحالي
تخلى فابيوس عن دعم إيمانويلي في الانتخابات الداخلية، وأعلن الحزب عن ذهابه بمرشح موحّد هو ليونيل جوسبان.
وتكمن المفارقة أنّ مرشح الحزب الاشتراكي لرئاسيات 2017، بونوا هامون، كان المسؤول الطلابي الذي أوكلت إليه مهمة التعبئة الشبابية في حملة جوسبان آنذاك. ويستذكر مناصرو الحزب الاشتراكي تلك الانتخابات بأسىً، لأنهم ذهبوا من دون إمكانية إقناع الوجه الاشتراكي الأوروبي الناصع، جاك ديلور، والد الأمين العام السابقة في الحزب، مارتين أوبري، بضرورة خوض الانتخابات، لأنه كان يعتقد بعدم قدرة الحزب على تحصيل الأكثرية البرلمانية في الانتخابات التشريعية، ففضّل الابتعاد عن الترشّح.
تصدّر ليونيل جوسبان الدور الأول، وحلّ شيراك ثانيا، فيما خرج بالادور مهزوما، على الرغم من أنّ التوقعات كانت تشير إلى فوزه في الانتخابات، حتى أسابيع قليلة سبقت الدور الأول، لكنّ الحقيقة أنّ بالادور نفسه لم يكن يرى نفسه سوى الرجل الثاني في البلاد، أي رئيسا للحكومة. في 7 مايو/ أيار 1995، نجح جاك شيراك في الحصول على 53% من أصوات الفرنسيين، وأصبح الرئيس الخامس للجمهورية الخامسة.
وفشلت حكومة آلان جوبيه في التعاطي مع الضغط الشعبي، والمظاهرات الكبيرة التي اندلعت بعد إقرار سلسلة من القوانين، كان أبرزها قانون التقاعد، وخصخصة شركات عديدة، وتسريح آلاف الموظفين. وتغطيةً على الفشل الاقتصادي، حاول شيراك امتصاص الغضب الشعبي في معاودته إطلاق مشاريع التجارب النووية في المحيط الهادئ، وعمد إلى الاعتراف بمسؤولية فرنسا المشتركة عن جرائم النازية في الذكرى السنوية لمجزرة المضمار الشتوي التي ارتكبها النازيون بحق يهود باريس، وذهب ضحيتها 13 ألف يهودي في أثناء الحرب العالمية الثانية.
خارجيا، توجّه شيراك إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي أثناء الزيارة، عندما كان يهمّ لزيارة المسجد الأقصى، خارجا من كنيسة القيامة، تعرّض لمضايقاتٍ من الشرطة الإسرائيلية، ما جعله يغضب على الهواء مباشرة، فتوجّه للشرطة بالقول "هل تريدونني أن أغادر حالا إلى باريس؟". اللقطات التي نقلتها الكاميرا تصدّرت نشرات الأخبار الفرنسية والعالمية، وشكّلت رصيدا كبيرا لشيراك في البلاد العربية.
وكان لشيراك المساهمة الأهم في التوصل إلى السلام في البوسنة، وفي توقيع اتفاقية دايتون لإنهاء الحرب (تم توقيع الاتفاقية في الإليزيه في باريس)، وشهدت تلك المفاوضات أولى شرارات التوتر بين الإدارة الأميركية وشيراك على خلفية تأخر الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، في الموافقة على إصدار قرار أممي واضح يدعم مسلمي البوسنة ويحميهم، ويضع حدا للقائدين الصربيين، ميلوسوفيتش وكارازايتش، لكنّ حنكة شيراك وثقافته الواسعة ودبلوماسيته فرضت على كلينتون الموافقة على القرار في قمة الدول السبع الكبرى.
بناء على نصيحةٍ، وجّهها له السكرتير العام للإليزيه، ومخضرم الدبلوماسية الفرنسية، دومينيك دو فيلبان، وأمام الصعوبات التي تواجهها الأكثرية النيابية، أعلن جاك شيراك حلّ الجمعية الوطنية، ودعا إلى انتخابات تشريعية مبكّرة، كانت نتيجتها متوقعةً بعد التوجّه الذي قامت به المعارضة اليسارية إلى إنشاء تحالف انتخابي، تتوّجه بتحالف حكومي، تحت مسمّى "اليسار المتعدّد"، الذي ضم الاشتراكيين والشيوعيين والخضر ومجموعات يسارية راديكالية.
نجح اليسار في اكتساح الانتخابات، وحصل على ثلاثة أضعاف عدد مقاعد اليمين، وأصبح جوسبان، أكثر من أي وقت مضى، المرشح الأقوى للوصول إلى الإليزيه، في الانتخابات المقبلة، خصوصا مع تسريب فضائح مالية عديدة متعلّقة بوظائف وهمية، في الفترة التي كان شيراك يشغل فيها عمدة باريس، إضافة إلى دعواتٍ علنية لاستنطاق شيراك (تبناه نواب من اليسار في مقدمتهم أرنو مونتبورغ)، رفضها المجلس الدستوري الذي منح شيراك حصانة رئاسية.
الولاية الثانية
في الورشة الداخلية لحزبه الذي اتخذ اسما جديدا "الاتحاد من أجل حركة شعبية"، بدأت أسهم شيراك بالتراجع، وبدأ نجم نيكولا ساركوزي يسطع، لكنّ شيراك حافظ على قوته في الحزب بين سنتي 2002 و2004، عندما تولّى آلان جوبيه رئاسة الحزب، فيما كان ساركوزي يجهّز لانقضاض كامل على مفاصل الحزب في السنوات المقبلة، مدعوما بزخم الالتفاف اليميني حول شخصه، بعد أحداث الضواحي ومسؤوليته المباشرة عن إخمادها.
كانت العلاقة في السنتين الأخيرتين من حكم شيراك قد بدأت تتوتر مع جوسبان، عزّزتها الخلافات الداخلية حول حل أزمة "جنون البقر"، ومنع استعمال "الجيلاتين الحيواني"، والخارجية التي نشبت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، لكنّ تلك السنوات الطويلة من حكومة التعايش الثالثة شهدت إنجازاتٍ غير مسبوقة على الصعيد الرياضي، إذ استطاعت فرنسا أن تفوز بكأس العالم للمرة الأولى والوحيدة في تاريخها، وعلى أرضها، سنة 1998، تبعها الفوز ببطولة كأس الأمم الأوروبية سنة 2000. وشهدت حكومة جوسبان تحسنا ملحوظا في انخفاض نسبة حوادث السير، فانخفضت نسبة ضحايا الطرقات حوالي 40% (8500 مواطن نجوا من الموت، نتيجة الاهتمام بتحسين الطرقات والتشدّد في قوانين السير).
شهدت انتخابات 2002 مقاطعة شعبية هي الأكبر منذ عام 1962 (بدء الاقتراع العام المباشر)، قدّرت بحوالي 28% مع مشاركة 16 مرشحا في السباق نحو الإليزيه، لكنّ أحدا لم يتوقّع أن يصبح نهار 21 أبريل/ نيسان 2002 يوما تاريخيا، أسّس لفكرة "التصويت التكتيكي" لاحقا، وجعل من اليسار الفرنسي يعيد طرح الأسئلة مجدّدا حول غياب المشروع والبرنامج السياسي الذي جعل مرشح اليمين المتطرّف جان-ماري لوبان يتفوّق على مرشح الاشتراكيين، ليونيل جوسبان الذي فشل في توحيد اليسار حول ترشحه.
واثقا من نفسه، يوزّع الابتسامات منذ الصباح، وعارفا بوجوده الحتمي في الدور الثاني، أمضى ليونيل جوسبان وقت ما بعد الظهر في منزله، بعيدا عن صخب الإعلام والمحازبين. عند الساعة السابعة مساء، وبحسب الصحافية في "الإكسبرس" آن فيدالي، دخل جوسبان إلى المركز الانتخابي للحزب الاشتراكي قرب ساحة الجمهورية، وسط صمت رهيب. حضر فرانسوا هولاند، مارتين أوبري، بيار موسكوفيسي، لوران فابيوس، دومينيك ستراوس-كان وآخرون، من دون أن يجرؤ أحد على القول إنّ كارثةً وشيكةً ستحلّ بعد قليل. وبحسب فيدالي دائما "دفع جيرار لو غال، الخبير في الاستفتاءات والإحصاءات، الباب، وقال: ليونيل، أنت لست في الدور الثاني. شيراك الأول ولوبان ثانيا. يترك جوسبان الغرفة بوجه شاحب، وعلامات الصدمة لا تفارقه، ليصيغ خطاب الخسارة، ويعلن بجرأة لم تشهدها الحياة السياسية الفرنسية سوى مرة مع شارل ديغول، تحمّله الخسارة الكاملة وانسحابه من الحياة السياسية بشكل نهائي.
أصبحت عبارة "21 إبريل" تعني زلزالا سياسيا في فرنسا، وكثر لاحقا استعمالها للتدليل على "صفعة سياسية" تاريخية، تعرّض لها اليسار الفرنسي. غداة الخسارة وانسحاب جوسبان النهائي، خرجت تظاهرات في مختلف المدن الفرنسية ترفض وصول جان ماري لوبان إلى الدور الثاني، ووصل عدد المتظاهرين إلى مليون ونصف مليون ليل 22-23 إبريل، في ظل دعواتٍ من مختلف الأحزاب إلى المشاركة بكثافة في الدور الثاني، تصويتا لجاك شيراك. وفي
حصل جاك شيراك على أعلى نسبة أصوات في تاريخ الجمهورية الخامسة (82%)، وانتخب رئيسا لولاية ثانية، كانت قد حدّدت سنواتها بخمس بدل سبع، بعد التصويت على القانون في الجمعية الوطنية سنة 2001. وجّهت أحزاب اليسار، وفي مقدمتها الحزب الاشتراكي، اتهامات مباشرة لبيار شيفينمان، وداعمه الكاتب والوزير السابق ماكس غالو، تحمّلهما مسؤولية خروج جوسبان من الدور الأول، وشكّلت تلك الخسارة خضة كبيرة في الشارع السياسي الفرنسي، يتخوّف كثيرون اليوم من تكرارها مع مارين لوبان في 23 أبريل/ نيسان المقبل.
طبعت الأحداث الخارجية الولاية الثانية من حكم شيراك، من التدخل في أفغانستان، فحرب العراق التي عارضها، مرورا باغتيال صديقه رفيق الحريري، وانقلاب موقفه من نظام الأسد في سورية، وإصراره على التوصّل إلى سلام فلسطيني-اسرائيلي. وعلى الرغم من ذلك، شهدت ولايته مشكلات داخلية عديدة، فقد عرفت حكومة بيار رافاران أزمة أمنية كبيرة "أزمة الضواحي"، عندما اشتعلت باريس غضبا، وأحرق سكان الضواحي آلاف السيارات والمباني، احتجاجا على مقتل طفلين في مبنى شركة الكهرباء، بعد ملاحقتهما من الشرطة الفرنسية. كما شهدت حكومة دومينيك دو فيلبان أزمة اقتصادية-اجتماعية، تمثّلت باحتجاجات شعبية كبيرة، رفضا لعقد الوظيفة الأول. واذا كان برنامج شيراك الانتخابي قد قام على محاربة التفاوت الطبقي، وايجاد حلول جذرية لـ "الشرخ الاجتماعي" الذي نظّر له المفكّر إيمانويل تود مطولا، فإنه فشل في خفض الدين العام والقضاء على البطالة، كما وعد، على الرغم من نجاحه في تحقيق نمو اقتصادي قارب 2,1% في 2006.
يبقى موقف شيراك الرافض لحرب العراق الأبرز من ضمن جملة مواقفه الخارجية، وهو ما جعله عرضة لانتقادات يومية في الصحافة الأنجلوسكسونية. ويبقى خطاب ممثل الدبلوماسية الفرنسية، دومينيك دوفيلبان، في مجلس الأمن وتصويته بـ "لا" مستخدما حق النقض (الفيتو)، عشية اجتياح العراق، الأقوى والأكثر تأثيرا في ذاكرة ملايين العرب الذين ثمّنوا هذا الموقف التاريخي لفرنسا. ولا ينسى مئات آلاف اللبنانيين دعم شيراك لهم في انتفاضة 14 مارس/ آذار 2005 التي جاءت لتسرّع تطبيق قرار مجلس الأمن 1559، القاضي بسحب القوات السورية من بيروت، إثر اغتيال رئيس الحكومة الأسبق، رفيق الحريري.
خرج شيراك من الإليزيه في العام 2007، في ظل احتدام الأزمة الاجتماعية، ووسط غليان في حزبه، أحسن استغلاله نيكولا ساركوزي، خرج مع شعبية قياسية في العالم العربي، ونظرة إعجاب وحب في أفريقيا، وفضائح مالية عديدة. وتفرّغ للعمل على إنشاء "مؤسسة جاك شيراك للتنمية المستدامة وحوار الحضارات". يعيش اليوم في منزل قدّمه له صديقه رفيق الحريري في الدائرة السابعة في باريس، مع زوجته برناديت، بعيدا عن الحياة السياسية، وكانت آخر مشاركاته إعلانه دعم آلان جوبيه لرئاسيات 2017، مقابل دعم برناديت ساركوزي.
دلالات
مقالات أخرى
13 ابريل 2017
05 ابريل 2017
05 ابريل 2017