لم يكن الطالب الفلسطيني صالح علماني، القادم من "مخيّم الثكنة" قرب مدينة حمص السورية، يعلم أن انتقاله عام 1970 إلى مدينة برشلونة الإسبانية سيُغيّر حياته رأساً على عقب، وأن إخفاقه في إكمال دراسة الطب ثم الصحافة لأسباب مادية سيظلّ فألاً حسناً طوال مشواره.
ورغم أنه لم يدوّن نصاً واحداً يروي فيه تفاصيل رحلته المبكرة إلى غرب المتوسّط، إلا أن ومضات منها توقّف عندها بشكل غير مترابط في عدّة مقابلات صحافية (أتت في فترة متأخّرة نسبياً) شكّلت السردية المؤسِّسة لسيرة المترجم الأشهر عربياً؛ حيث تذكّر كيف وقعت رواية "مئة عام من العزلة" لماركيز بين يديه، وأنه ترجم منها فصلاً أو فصلين ثم أهملهما، وأنه عمل في ميناء برشلونة بمهن بسيطة أخرى اطّلع خلالها على تفاصيل الحياة.
لا يمكن التنبّؤ بمدى معرفة علماني (1949 - 2019) بالإسبانية والثقافة المكتوبة بها، وهل تلقّى تحصيلاً لغوياً متخصّصاً من خلال تعليمه الجامعي أو عبر دراسة منتظمة في أحد المعاهد، أم اكتفى بما تعلّمه في تلك السنوات؟ تساؤلات يقف عندها المتابعون لـ ترجماته التي فاقت مئة وعشرة كتب لما سيقع عليه من ملاحظات وحتى أخطاء أشار إليها عدد منهم.
أوّلها، أنه طبع جميع ما قدّمه للمكتبة العربية من نقولٍ بأسلوبه ولغته، فلا تظهر اختلافات واضحة بين ما ترجمه لخوان رولفو أو لإيزابيل ألليندي أو لماريو برغاس يوسا أو إدواردو غاليانو الذين تتفاوت لغتهم وأساليبهم على نحو بيّن لم يتمكّن من إبرازه، بسبب وقوعه تحت ضغط العمل (أربعة كتب على الأقل سنوياً) أو عدم تبيانه للقوالب والبنى الأدبية.
وثانيها يتعلّق بترجمة خاطئة للعديد من المفردات والمصطلحات، والتي واجهها علماني بصراحة عند إقراره في أكثر من لقاء أُجري معه في السنوات الأخيرة، باعتماده على معاجم إسبانية لم تكن توفّر حتى وقت قريب الاستعمال المختلف للمفردة أو الانزياح في العديد من التراكيب في بلدان أميركا اللاتينية خلافاً لما عليها في إسبانيا، وهي خلاصة توضّح العديد من العثرات التي كان يفضّل تلافيها في الطبعات الجديدة لأعماله المترجمة.
توجّه مترجم رواية "حيوات جافة" للكاتب غراسيليانو راموس نحو أدب أميركا اللاتينية في مرحلة كان محطّ اهتمام أوروبي بدأ منذ الستينيات سواء بالترجمة أو بالنقد أو بالتنظير، ما لفت إليه بالضرورة أنظار بقية ثقافات العالم، ومنها العربية، التي كانت غالبية الترجمات الأميركولاتينية حتى تلك اللحظة - على قلّتها - من الإنكليزية والفرنسية.
هنا، يُحسب لعلماني اهتمامه المبكر بتلك الجغرافية النائية، رغم تقاطعاتها التاريخية والاجتماعية والسياسية مع المنطقة العربية، حيث قدّم في الثمانينيات وحدها أكثر من خمسة وعشرين عملاً ساهمت في اكتشاف روّاد الواقعية السحرية الذين شغلوا بال القرّاء والكتّاب العرب على حدّ سواء، وعلى طبيعة الحياة في القارة التي عانت من الاستعمار والدكتاتورية والحروب الأهلية والتدخّل الأميركي في شؤونها كافّة على مدار أكثر من قرن.
ومقابل ذلك، نال حظه من التقدير منذ ترجماته الأولى، إذ أشار معظم الصحافيين والنقّاد إلى اسمه، مبشّرين بمكانته التي سيستحقها في المستقبل، وانهالت عليه عروض من دور نشر لبنانية وأردنية وسورية وفّرت له الحضور العربي بأسرع مما كان يتوقّع، ما تطلّب منه العمل لأكثر من عشر ساعات يومياً لإنجاز كلّ تلك الأعمال.
إزاء هذا الانتشار الكمّي المتسارع، لم يتسنّ لعلماني أن يقدّم مشروعه في الترجمة، حيث نقل في بداياته أعمالاً لكتّاب عديدين لا ينظم بينها رابط معيّن، فتنقّل بين ماركيز ولويس كورفالان ولوركا ورافائيل ألبيرتي وإستر برات وخوان رولفو والعديد من المختارات في أول عشر ترجمات أصدرها، كما خضع لاحقاً لاختيارات الناشرين التي تركّزت على أسماء بعينها صعد نجمها لأسباب مختلفة.
سيظلّ أسيراً لهذا التنوّع الهائل في الخيارات، ولن يتمكّن من الإضاءة بشكل فاعل على كاتب معيّن باستثناء ماريو برغاس يوسا الذي ترجم له "ليتوما في الأنديز"، و"من قتل بالومينو موليرو"، و"دفاتر دون ريغوبيرتو"، و"امتداح الخالة"، و"قصة مايتا"، و"حفلة التيس"، و"رسائل إلى روائي شاب"، و"شيطنات الطفلة الخبيثة"، و"بانتليون والزائرات"، و"حلم السلتي".
سيترجم أيضاً عدداً مقارباً من الأعمال لإيزابيل الليندي وإدواردو غاليانو، ويقدّم جميع أعمال ماركيز ما عدا القليل منها، وستتوزّع بقية ترجماته على أكثر من خمسين كاتباً، الأمر الذي لم يتح له تخصيص جهده للتعريف أكثر وبشكّل مفصّل بالعديد من التجارب المهمّة في أميركا اللاتينية التي قدّم لها عملاً أو عملين.
لم يحُل ذلك دون ترجمة مؤلّفات بارزة، وإن لم تجد الانتشار الذي لاقته روايات عديدة ترجمها، مثل "كتاب المجلس؛ الكتاب المقدّس لقبائل الكيتشي- مايا (بوبول فوه)" الذي صدر عن "دار منارات/ عمان" عام 1986، ويضمّ سلسلة من القصص التي تتناول شرح أصل العالم والحضارة ومختلف الظواهر التي تحدث في العالم من منظور عدد من شعوب أميركا اللاتينية.
تجوّل علماني في آداب قارّة بقيت مجهولة للعالم كلّه حتى زمن قريب، وقدّم مروحة واسعة من الأسماء التي أتاحت لمترجمين آخرين نقل إبداعاتهم بشيء من الروية والتمهّل، ووعي أكبر بمواقفهم السياسية والفكرية التي لم يستوعبها تماماً، وربما نستذكر إصراره على تعاطف ماريو برغاس يوسا مع القضية الفلسطينية رغم أن الأخير مؤيّد لـ"إسرائيل" وللولايات المتحدة في جميع حروبها العدوانية على شعوب المعمورة.