محزنٌ للغاية ما آل إليه وضع الصحافة والإعلام في مصر، في زمن لم تجرؤ فيه على مناقشة أزمة مياه نهر النيل وبناء سد النهضة الإثيوبي. غابت الصحافة كما غابت الدبلوماسية في تلك الأزمة وغاب معهما شريان الحياة لمصر، وحضرت فقط المعالجة السطحية في هامش الحرية الضئيل.
فبالتزامن مع إعلان إثيوبيا ملء المرحلة الأولى من السد، غابت عن الصحافة المصرية المقالات والتحليلات والتقارير التي كان من شأنها أن تجيب على تساؤلات حول الرد الرسمي المصري على بدء ملء السد، والسيناريوهات القادمة المطروحة، وهل أصبح المصريون أمام أمر واقع جديد، وما هي أخطاء الجانب المصري في إدارة الملف منذ البداية، وما إلى ذلك من أسئلة تراود عقول وأذهان المصريين... لكن في اليوم التالي لعقد القمة الأفريقية المصغرة لمناقشة بدء ملء السد التي عُقدت مساء الثلاثاء قبل الماضي، لم تقترب الصحف المصرية من الملف إلا باستحياء، وتجاهل معظم كتّاب الرأي، التطرق لقضية مياه نهر النيل في أعقاب القمة المصغرة وإعلان بدء ملء السد.
وأصدرت القمة الأفريقية المصغرة توصيات حول ضرورة إلزام كل الأطراف بتوقيع اتفاق قانوني مُلزم بين الدول الثلاث، والاتفاق على قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، وعدم مناقشة المشروعات المستقبلية أو حصص نهر النيل. ولم تفرد الصحف صفحاتها لمواضيع من أجل النيل، ولم يتغزل الكتّاب وأصحاب الرأي في أساطيره وأسراره منذ عصور الفراعنة والقدماء المصريين إلى الآن، ولم يبدع المخرجون الصحافيون في تنفيذ الصفحات برسم شريان الحياة لمصر يتوسط المقالات والتقارير والتحليلات السياسية العميقة.
تجاهل معظم كتاب الرأي التطرق لقضية مياه النيل
اكتفت الصحف الرئيسية الكبرى في مصر القومية منها والخاصة، بفرد صفحاتها الأولى، ومانشيتاتها الرئيسية بتكليفات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، للحكومة، بملف الطرق والكباري. وتطرقت صحيفة "الأهرام" القومية" بشكل هامشي لأزمة ملف سد النهضة، بخبر نقله مراسلها في واشنطن عن دراسة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قطع بعض المساعدات عن إثيوبيا، نقلًا عن "فورين بوليسى" الأميركية التي أشارت إلى أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تدرس منع بعض المساعدات التي تقدمها إلى إثيوبيا، إذا وصلت مفاوضات سد النهضة إلى طريق مسدود، وإذا فشلت مصر والسودان وإثيوبيا في التوصل إلى اتفاق نهائي".
وتحت عنوان "الخارجية: القمة الأفريقية طالبت بآلية ملزمة لفض نزاعات سد النهضة"، نقلت "الأهرام" تصريحات أحمد حافظ المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية. ونشرت صحيفة "الشروق" الخاصة مقالًا لرئيس تحريرها يتساءل فيه "عما يمكن أن نفعله مع إثيوبيا". أما باقي الصحف والمواقع الإخبارية، فتعاملت مع ملف سد النهضة باعتباره قضية هامشية تم التعامل معها برسمية شديدة من حيث نقل تصريحات المسؤولين فقط، دون عرض تحليلات ولا تقارير إخبارية ولا حتى مقالات رأي صريحة عن الملف. وجاء ذلك على عكس تعامل الصحافة المصرية مع ملف التدخل المصري في ليبيا، باعتباره في صميم الصراع السياسي المصري التركي داخل الأراضي الليبية.
في المقابل، تداولت الصحف والمواقع الإخبارية المصرية، بكثافة تصريحات عضو اللجنة الفنية لمفاوضات سد النهضة، علاء الظواهري، التي قال فيها إن "التصريحات الصادرة عن عدد من المسؤولين في الحكومة الإثيوبية، مراهقة سياسية تترفع مصر عن الرد عليها".
هذه "المراهقة السياسية التي تترفع مصر عن الرد عليها" هي تعبير صادق عن التعامل الرسمي المصري في الملف منذ البداية. فهذا الاستخفاف بالجانب الإثيوبي، بدا جليًا في تصريحات المسؤولين المصريين، وفي أفعالهم ونقاشاتهم، وكذلك في التناول الصحافي مع القضية، رغم القلق المتصاعد في الشارع المصري من قضية الأمن المائي. وهذا الخوف من الاقتراب من ملف شديد الحساسية، يرجع إلى الآلة القمعية التي تحكم الصحافة والإعلام في مصر منذ سنوات. وهو ما رصدته "الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان"(منظمة مجتمع مدني مصرية) في دراسة لها صادرة في أوائل يوليو/تموز، بأهم القوانين المقيدة للحريات خلال السبع سنوات الماضية، من عام 2013 وحتى عام 2020. وقالت الشبكة إن تلك القوانين "حوّلت مصر من دولة تسعى للديمقراطية بعد الإطاحة بالدكتاتور الأسبق حسني مبارك في ثورة يناير/كانون الثاني 2011، إلى دولة الخوف الخالية من العدل وسيادة القانون في 2020".
والدراسة التي صدرت بعنوان "تشريعات الظلام: نماذج من القوانين المقيدة للحريات في 7سنوات، يونيو/حزيران 2013- يونيو/حزيران 2020" ضمت أمثلة لـ 25 قانونا "كبّلت حقوق وحريات المصريين"، وحاصرت المجتمع المدني، وحدّت من استقلال القضاء، وأحكمت السيطرة على الصحافة والإعلام، وأطاحت باستقلالية الجامعات وحرية استخدام الإنترنت، وزادت أوضاع السجون سواء، فضلًا عن إهدار حق التظاهر السلمي تماما، كأحد روافد حرية التعبير في مصر.
ويقبع على الأقل 29 صحافياً في السجون المصرية، وفقاً لأحدث إحصاءات نشرتها منظمة "مراسلون بلا حدود"، بينما يرتفع العدد لما يقرب من 70 صحافياً وإعلامياً في تقديرات حقوقية محلية، تحصي جميع العاملين في مجال الصحافة والإعلام من النقابيين وغير النقابيين.
تعد مصر واحدة من أكبر سجون الصحافيين في المنطقة
وطبقًا لأحدث تصنيف لمنظمة "مراسلون بلا حدود" بشأن حرية الصحافة في 2020، الصادر في 21 إبريل/نيسان الماضي، تراجعت مصر للمرتبة 166 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، بتراجع 3 مراكز عن ترتيبها في العام الماضي. وحسب وصف "لجنة حماية الصحافيين"، تعد مصر واحدة من أكبر سجون الصحافيين بالمنطقة.
وضمن أكثر من 546 موقعاً إلكترونياً حجبته السلطات المصرية منذ 2017 وحتى اليوم، بلغ عدد المواقع الصحافية والإخبارية المحجوبة في مصر 108 مواقع صحافية طبقاً لمنظمات حقوقية مصرية.