صحافة في الأسر
أخبرْني عن صحافة بلدك، أخبرك عن مدى تقدّمه، فكلّما كانت الصّحافة حرّة، تعدّدية، ناطقة بهواجس المواطن وأحلامه وشواغله، مواكبة طموحات النّاس وأسئلتهم، كانت صحافةً حيّة، ورافد من روافد التّحديث والتّطوير في المجتمع. و التعدّد مهم في المشهد الإعلامي، إذ يخرج به من الأحاديّة إلى الكثرة، ومن النمطيّة إلى التنوّع، ويوفّر للمتقبّل مصادر مختلفة لتلقّي المعلومة، كما يسمح له بالتّعبير عن شواغله، عبر منابر إعلاميّة شتّى. لكنّ التمتّع بنعمة الحرّية لا يمنع من التّنبيه إلى أنّ العمل الصحفي يقتضي لزوم الدقّة في نقل الخبر، وانتحاءً نحو الموضوعيّة في مقاربة الظّواهر والقطع مع صحافة الإشاعة، ونهج الصّحف الصّفراء في التّنكيل بالمخالف، وتشويه المعارض، وشيطنة من لم يكن على رأي الحاكم.
ودور الصّحافي، الآن، وهنا دور تاريخيٌّ، بل ريادي بامتياز، فهو المؤهّل، أكثر من غيره، لمواكبة الواقع ولاستشراف المستقبل، والتّأسيس لدولة الحقّ والواجب، فالصّحافة سلطة فكريّة ومعنويّة وإعلاميّة، تساهم في تشكيل الوعي الجمعي، وفي تأمين الرّقابة النّزيهة، والمتابعة الرّصينة لمنجزات بقيّة السّلطات الفاعلة في جهاز الدّولة، أعني السّلطة التشريعيّة والسّلطة التّنفيذيّة والسّلطة القضائيّة. ومن ثمّة، الصّحافي رقيبٌ على الحاكم والمحكوم على السّواء، وهو قناة للتّواصل بين الطّرفين جميعاً، وهو، إلى ذلك، معنيّ بتنوير النّاس وكشف الحقائق في غير تهويل، ومعنيّ بنقل الخبر وتحليل الوقائع وتوصيف الرّاهن في غير تمجيد أو تهوين. لذلك، نحن اليوم في أشدّ الحاجة إلى صحافة عربية جديدة، حرّة ومسؤولة، تنأى بنفسها عن التحزّب والتّحزيب، وعن خدمة أجندات داخليّةٍ، أو خارجيّةٍ، ضيّقة، وتكون واعيةً بدقة الظّرف التاريخي الذي نعيش، مساهمةً في تأمين الانتقال السلمي نحو الدّيمقراطيّة ونحو الدولة المدنيّة المعاصرة.
سئم المواطن العربي، على امتداد عقود خلت، أولئك الذين يرون الأمور بعين واحدة، ومن زاوية واحدة، وينصّبون أنفسهم أوصياءَ على الحجر وعلى البشر، فينطقون بَدَلَ النّاس، ويدّعون أنّنا أصحاب معجزاتٍ، وما نحن بذلك. ويدّعون أنّنا نعيش في جنّات عَدنٍ، ونحن منها ومنهم براء، بل نحن خارج التّاريخ كنّا. لكنّهم أبوْا إلاّ تكريس صحافة التّمجيد والتخويف، ومنطق الدّيماغوجيا وثقافة التّهافت، فخسروا النّاسَ وخسر الوطنُ.
من هنا، الحاجة أكيدة إلى صحافة المصارحة والمحاسبة والمقاربة الموضوعيّة النّاقدة للماضي والحاضر والمستقبل. ومعلوم أنّ هذا الأمر لا يكون في مقدور الصحافيّ، إلاّ إذا أمن على نفسه وماله وعِرْضِه، وتيسّر له بلوغ مصادر الخبر ومراجع المعلومة ومواقع المعاينة الميدانيّة، في غير قمع أو كتم أو بيروقراطيّة أو تكلّف.
والحقيقة أنّي أُصِبْتُ، أخيراً، بحالة من الذّهول، وأنا أتابع مشاهد محاكمة صحافيي قناة الجزيرة في مصر، واستوطنتني الدّهشة، وأنا أرى قاضي العسكر يصدر الأحكام بالسجن، سنوات عديدة في حق إعلاميين، لم يكن لهم من ذنبٍ سوى أنّهم قاموا بواجبهم المهني، ونقلوا الصورة والمعلومة إلى المشاهد، هم لم يكونوا يحملون سلاحاً، ولا يرهبون أناساً، بل كانوا يحملون فقط قلما معبّراً، ولساناً ناطقاً، وآلة تصوير جريئة …انتابتني حيرةٌ لا توصف، وتبادرت إلى ذهني أسئلة عدّة: هل ولّى زمن الثّورة إلى الأبد؟ هل تعني هيبة الدّولة انتهاك حرّية الصّحافي، وامتهان كرامته، ومصادرة حقّه في التعبير؟ حتّى متى سيظلّ الصّحافيّ في البلاد العربيّة ممنوعاً مقموعاً، مكتوماً، مكلوماً، أسيراً، مصادراً على مرّ الزّمان، قبل الثورات وبعدها؟
الظاهر أنّ أغلب حكام العرب في حاجةٍ إلى أن يتعلّموا ثقافة جديدة، مؤدّاها أنّ من أبرز مهمات الدولة تأمين السّلامة وحراسة الحرّية، و احترام حقّ الشّعب في الوصول إلى المعلومة، وحقّ الصّحافي في نقل الخبر، فالصّحافي، إذ ينقل ما ينقل يروم كشف الحقائق ونقل الوقائع، لتستبين الصّورة للنّاس، ويرتفع اللّبس عن الأذهان، وليس من مهماته الانضمام إلى جوقة المناشدين، ولا المتاجرة بالكَلم، أو بالدّم، أو بالقلم، وليس من مهامّه، أيضا، التّغطية على الواقع، أو تلميع الواجهات المكسورة، و تبرير ممارسات الأنظمة الشمولية في منعطف الألفية الثالثة.