تلك الصدامات، تندلع في أعقاب مقتل شاب أميركي أسود غير مسلح في غالبية الحالات، على يد شرطي أبيض، تجري تبرئته.
هذا السيناريو ضاعف الشعور بالغبن والاحتقان المتراكم عبر التاريخ، لدى السود، لينفجر على شكل مواجهات عنيفة غاضبة في الشارع، تؤدي إلى إعلان حالة الطوارئ واستدعاء الحرس الوطني للسيطرة على الوضع واستعادة الأمن.
دوامة تجدد فتح الجرح العنصري المزمن لتزيد من التهابه، مع كل ما يحمله ذلك من تهديد أمني اجتماعي، خاصة بالنسبة للأقليات.
وزاد من الأمر سوءاً، خطاب الحملة الانتخابية للمرشح الجمهوري دونالد ترامب، الذي صبّ الكثير من الزيت على بقايا نار التفرقة العنصرية الكامنة تحت الرماد والتي استعصى إطفاؤها بالكامل حتى الآن.
وكانت مدينة شارلوت بولاية نورث كارولينا، قد شهدت أول أمس، توترا ومواجهات عنيفة، عقب مقتل رجل أسود برصاص شرطي.
ورغم أن الأخير أسود، استثناء على المألوف، لكن ردة الفعل، جاءت كالعادة، على شكل تظاهرات وأعمال شغب وتخريب ومواجهات مع الشرطة، تخللها إطلاق نار وسقوط جرحى وإعلان حالة طوارئ.
الأسبوع الماضي، أيضاً، قتلت شرطية بيضاء في ولاية أوكلاهوما، رجلا أسود لم يشفع له رفع يديه مستسلماً، والتأكيد على عدم حمله أي سلاح.
حادثة كانت فاقعة في تحيزها ومقدار الكراهية التي انطوت عليها، لدرجة أن ترامب نفسه استنكرها.
كذلك، حصلت في السنتين الأخيرتين، حوادث مشابهة، كان أخطرها في مدينة دالاس، ولاية تكساس خلال الربيع الماضي، حيث جاء الرد على مقتل أسود بنصب كمين لرجال الشرطة أدى إلى سقوط خمسة منهم.
تبع ذلك، بأيام، مواجهات في ولاية لويزيانا، حيث جرى الأخذ بالثأر لمقتل أسود بقتل اثنين من الشرطة.
تواتر هذه الصدامات، ترك انطباعاً أنها تحولت إلى نمط، له خلفياته المتداخلة التي يطغى عليه الطابع العنصري.
صحيح أن نسبة الجريمة في صفوف السود عالية، لكن لهذا أسبابه، منها التهميش الناتج عن تدني مستوى التعليم وارتفاع معدلات البطالة.
والشرطة عموماً، تتعامل بدونية وتمييز وشراسة مفرطة مع الأسود العادي، خاصة في المدن، فهو دوماً موضع شبهة وشك، يجري التعاطي معه من قبل الشرطة كمتهم عموماً أو مرشح للاتهام، بمخالفة القانون والنظام.
يضاف إلى ذلك، أن هناك تمييزا قانونيا ضد الأسود، فهو يتلقى عقوبة أقسى عموماً من التي ينالها غيره في جريمة أو مخالفة مماثلة. العدالة مختلة ضده ومنحازة لرجل الأمن الأبيض.
ومن الأمثلة على هذا التمييز، حادثة حصلت، قبل أشهر، في مدينة كليفلاند، حيث قتل شرطي أبيض، صبياً عمره 12 سنة، كان يحمل مسدساً، تبيّن انه لعبة من مطاط . وجاء في قرار المحاكمة، أن الشرطي "غير مذنب"، وكأنه قام بما يقتضيه الواجب الأمني.
ينعكس التمييز، في الأرقام والإحصاءات، فخلال السنوات الأخيرة، بلغت نسبة القتلى من الشباب، في مطلع العشرينات، السود 15 بالمائة، علماً أنهم يشكلون فقط نسبة 2 بالمائة من مجموع السكان في أميركا.
وفي 2016، وحتى الآن، سقط برصاص الشرطة 505 قتلى، منهم 122 من السود. والعديد من هؤلاء الضحايا كانوا غير مسلحين، ولم يستخدموا العنف ضد الشرطة.
وباء العنف المستشري يحصد أكثر من 30 ألف قتيل سنوياً، يعود في الشق الأكبر منه إلى توفر السلاح الفردي بغزارة، ففي أميركا اليوم أكثر من 300 مليون قطعة سلاح، وفي بعض الولايات يسمح القانون بحمل السلاح خارج المنزل وبصورة مكشوفة.
وفشلت محاولات تقييد حيازة السلاح المفتوحة، إذ إن لوبي السلاح الفردي يملك نفوذاً هائلاً في الكونغرس.
الأزمة المتفاقمة بين الشرطة والسود، ليست أمنية واجتماعية، بقدر ما هي خليط من بقايا الموروث العنصري الأميركي ومن إعادة تحريكه وشحنه بالكراهية خاصة خلال السنوات الثمانية الماضية.
خلال حكم الرئيس الأميركي باراك أوباما، تمادى المحافظون في خطابهم التحريضي الفاقع في كراهيته وعنصريته، في محاولة لنزع الشرعية عن رئاسته.
لفّقوا الروايات عن هويته ومذهبه السياسي ونظرته إلى الآخرين، قالوا عنه أنه "إفريقي" غير مولود في أميركا، وأنه "اشتراكي" و"يكره أميركا" و"لا يحب البيض"، مزاعم عمل ترامب على ترويجها لمدة سنوات.
كما شارك في ترويج هذه الروايات، خليط من عتاة اليمين السياسي والإعلامي والنخبوي، الذي لم يقو على تقبل وجود رئيس أسود في البيت البيض.
وقد ترك هذا الخطاب المتعصب أثره لدى قطاعات واسعة من البيض، خاصة في الجنوب الذي ما زال يسوده الاعتقاد أن أوباما "ليس أميركي" الهوية.
وفي هذا السياق، قالت سيدة من أنصار ترامب، في تعليقها على أحداث شارلوت أن "العنصرية لم يكن لها وجود قبل مجيء أوباما. هو الذي جاء بها"، ما يعني أن مجيء أسود إلى الرئاسة، هو الذي تسبب بردة فعل من جانب البيض، قناعة سائدة في أوساط الكثيرين من المحافظين.
قطعت أميركا مسافة طويلة على طريق الخلاص من العنصرية، لكنها قطعتها ببطء. ولم تصل بعد إلى نهاية الشوط . أخذت حوالي 245 سنة للتخلص قانونياً من الرق والعبودية عام 1865. ثم مئة سنة بين 1865 و1965 للخروج من حالة التمييز العنصري، آنذاك صدر قانون الحقوق المدنية الذي ألغى التمييز بكافة ألوانه وأشكاله.
لكن النصوص، لم تقتلع الإرث العنصري نهائياً من النفوس، بقي حاضراً ولو مكبوتاً وجاهزاً للاشتعال عند أول شرارة.