صدر قديماً: "الفلسفة الشرقية" لـ محمد غلاب

19 مايو 2018
سائح يتسلق الهرم الأكبر، 1960
+ الخط -

في العام 1938، صدر لأستاذ الفلسفة في كلية أصول الدين في القاهرة، محمد غلاب، كتاب حمل عنوان "الفلسفة الشرقية"، في وقت لم يكن فيه أحد في الأوساط العلمية يعتقد بوجود شيء اسمه فلسفة شرقية، أو أن العقلية الشرقية تجاوزت أفق التعاليم الدينية إلى رحاب الفكر العلمي والفلسفي.

حتى في قلب الحياة الفكرية في مصر كان هناك مستشرقون وتلاميذ لهم (أو أذناب بتعبير غلاب) يقبضون على مفاصل الحياة الفكرية، يشيعون نظريات عن عجز العقل الشرقي المزمن عن إنتاج معرفة فلسفية. من هؤلاء البريطاني والس بدج (1857- 1934)، مبعوث المتحف البريطاني والمختص في علم المصريات، الذي كان يزعم "أن لا بديل للظن ولو للحظة أن أي شيء أفريقي يمكن أن يصبح ميتافيزيقياً بالمعنى الحديث للكلمة.. فما من لغة أفريقية تتلاءم مع التعبير عن التأملات اللاهوتية والفلسفية".

إذاً، في هذا الجو جاء هذا الكتاب ليكون مقدّمة لما سيأتي بعده من كشفٍ تواصلَ حتى مطلع القرن الحادي والعشرين على يد باحثين من مختلف الثقافات، ليس عن وجود فلسفة شرقية فقط، بل وعن أصول شرقية حتى للفلسفة الإغريقية التي ظل الغرب يعتقد حتى وقت قريب بأنها "معجزة" فكرية يونانية (غربية بالطبع) بلا أسلاف، وأنها فريدة عصرها وكل العصور.

يقول غلاب إن ما دفعه إلى تأليف كتابه هذا هو أن وادي النيل "مع الشوط الذي قطعه في العلوم الطبيعية والرياضية، لا يزال في الفلسفة مقفراً إقفاراً يندى له جبين الإنسانية خجلاً، لأننا لو فرضنا المعارف البشرية كائناً حيّاً، لكانت العلوم الطبيعية والرياضية جسمه المادي، وكانت الفلسفة منه بمثابة النفس التي هي منبع حياته".

ومن هنا جاءت محاولته في هذا الكتاب: "دراسة النظر الإنساني وما مرّ به من تطوّرات قبل أن يطلق عليه ذلك الاصطلاح الفني وهو كلمة "فلسفة".. ذلك لأن تفكير الشرق القديم ليس متفقاً على تسميته فلسفة بين العلماء والباحثين بسبب استمداد ما فيه من آراء عقلية من التعاليم الدينية، وإن كان كثير من أولئك العلماء يرون وجوب تسمية النظر الشرقي فلسفة، لأن هذا الاستمداد من الدين لا يفقده قيمته".

سند هذا الرأي الأخير منطقي، وأساسه أن من ينكرون على النظرات الفكرية الشرقية أن تكون فلسفة، هم ذاتهم من يطلقون اسم فلسفة على منتجات فلاسفة أوروبا في القرون الوسطى التي تأسّس الكثير منها واستمد مادته من تعاليم الكنيسة المسيحية.

ولما كان مهد هذا النظر العقلي، كما يقول، هو الشرق القديم، فقد وجب أن يتعقبه في مواطن نشأته ونموّه، في مصر وبلاد الرافدين وفارس والهند والصين. في البداية، شرح المؤلف الأسباب التي قللت من أهمية دراسة الفلسفة الشرقية، فيرى أنها ترجع إلى سببين، الأول أن الدين والفلسفة في الشرق شيء واحد، ولهذا لم يعرف التاريخ نظرية فلسفية ظهرت في الشرق القديم مستقلة عن الدين، وإنما مهد النظريات البعيدة عن كل التأثرات الدينية من غير استثناء هو بلاد الإغريق. ثانياً، أن المصادر التي وصلتنا عن فلسفة تلك الشعوب الشرقية قليلة، لا تكفي لإشباع الرغبة العلمية عند الدارس المتقصي الذي لا يرضى من المشكلة بأقل من الإحاطة بجميع جوانبها.

وفي رأيه أن أكثر العلماء، لهذين السببين، تعوّدوا أن يبدأوا بحوثهم عن الفكر البشري بالفلسفة الإغريقية. وإذا درس أحدهم الحياة العقلية في الشرق القديم درسها على أنها ديانات لا مذاهب فكرية. أما هو فيتخذ نهجاً مختلفاً، فيعالج دراسة النظر العقلي في هذه المنتجات الشرقية، من دون أن تعيقه العقبة الأولى، ويفصّل المذاهب والآراء العقلية عن الدين بقدر المستطاع، ولا تقف في طريقه العقبة الثانية، أي ندرة المصادر، لأن "ما لدينا منها يمكننا من الإلمام بها إلى الحد الكافي". والهدف هو إثبات "أن الفكر البشري سلسلة متصلة الحلقات لم يحل بين تأثير السابق منها في اللاحق بعد الزمان ولا شقة المكان".

في ضوء هذه المقاربة، يكشف غلاب عن وجود عناصر فلسفية مصرية قديمة. على سبيل المثال يتحدّث عن عناصر ما تدعى المثل الأفلاطونية في ما ذهب إليه كهنة مدينة الشمس من أن الفكرة لا تمنح الكائن الوجود فحسب، بل هي التي تحفظ وجوده الدائم، فإذا قدر على أي كائن أن يزول اسمه من فكر الإله فإنه يهوي إلى العدم المطلق، وفي المثل الأفلاطونية تعتبر جميع الكائنات المادية خيالات لا حقائق، ولا يعترف أفلاطون بوجود حقيقي إلا لعالم الفكر المجرد. وسنجد هذه الفكرة الفلسفية بارزة في الهند (في كتاب الغيتا المسمى الأنشودة السماوية) وفي الصين (في كتاب الطاو أو سواء السبيل والهدى).

وهناك عناصر فلسفية أخرى يكشف عن وجودها في صور عقلية واجتماعية هندية محلية، وفي كتب الفيدا الآرية، وأبرز ما فيها فكرة وحدة الوجود التي تطوّرت عن أساطير الخلق الذي لم ينشأ من عدم بل من أبعاض الإله. ويقول غلاب إن "أجزاء من الفيدا تضمّنت المبادئ النظرية التي تصلح أن تكون أساساً مهماً من أسس الفلسفة، تتلّخص في الانتقال من التعدّد إلى الوحدة، وهي خطوة عظيمة نحو التجريد والسمو".

ولا يفوته أن يشير إلى أصل فكرة التناسخ في فكرة التناسخ الهندية، مثلما يرى أن مدارس فلسفية مثل السفسطائية والمادية لم تكن محصورة في بلاد الإغريق كما يعتقد كثير من الناس، بل عرفتهما الفلسفات الهندية والصينية والفارسية.

وعن البوذية يتحدّث فيبرز جانبها الفكري الفلسفي، ثم يخلص من الاهتمام الكبير الذي يوليه للهند على وجه الخصوص، إلى أن هذا البلد شهد "ازدهار الفلسفة بجميع أقسامها، الإلهية والطبيعية والرياضية، والمقدمة الضرورية للفلسفة، وهو المنطق". ويقرّر أن "الهنود هم أساتذة فيثاغورس، أكبر رياضيي اليونان، وأساتذة العرب في الحساب والهندسة والفلك.. أما في الطبيعيات فقد وصلوا إلى نظرية الذرية، الجوهر الفرد، قبل ديمقراطيس، أول القائلين بهذا في اليونان.. ووجدت الفلسفة بأكمل معانيها في الهند، وأن اليونان مدينة لتلك البلاد بالكثير".

المساهمون