بدأ فهمنا له في تلك القطعة من الأرض، الحب، حين عرفنا الفرق بين ألف قطعة خبز لا معروفة مصادر دفئها، وقطعة خبز تعدها الأم لنا، بالزيت والزعتر، ونحن بكامل اتساخنا، الطين يغطي السنتيمترات الخمسة الأخيرة من البنطال.
كان الحب صراخاً تحت الجسور، في أنفاق الصرف المهجورة، في البيادر، كانت أحجاراً لصنع مرمى، أحجاراً لنرسم حدود قلاع، أحجاراً لنضرب السماء لاصطياد سحاب، أو قتل غراب وبوم، مجالاً من اللحن، حيث الصدى دائماً نفحة حب لا تتركك وحدك.
كنا نعلم في قرارة أنفسنا أنّه سيكبر، سيصبح طريق بلوغ درب من النظرات لفتيات لا يعرفْن معانيه، في شوارع مدارسنا المتباعدة، طريقاً يفضي لغرائز لا تنتهي. سيكبر ويصبح بدايات لحى ومثبّت شعر. وابنة عمٍّ في عرس تمسِك يدك في الدبكة. سيكبر ويبقى يرقص على صوت الطبلة وأصوات العجائز. حين كانت السماء أبعد من سقف حانة، وأوسع من شوارع المدن التي لا تكسوها السماء، كان الحب أبسط من كأس، أعظم من نبوءة. هذه الأرض، كانت وما زالت، برزخ الأماني والتيه، وكنت بلا ذات، محض فكرة وحيدة الخلية، تحمل كل شيء في داخلها، قاتلاً وشاعراً ورساماً وحائراً وضحية، وأحياناً نبياً مرجومًا ومصلوبًا، وأحياناً جلاداً صامتًا، يكتم الضحك والحقد. ذاتاً خاوية كنت، أراقب قومي والقمر، الأواني بأيديهم يضرمون نار الضجة، كي لا يبتلع الوحش هذه الكرة المشمشية، وكنت ابتلع الليل بصمتي وما زلت. يراقبني قومي من قوقعتي، بكل حب، وكل هذا الحب، كان مجرد قمر في الكف بلا ضياء.
وبعد هذا، تصير أنت حُبّاً كاملاً، كتلةٌ لا تتغيَّر ملامحها، لك همّ محدث، وعيون أوسع من يد ابنة عم في حب مضى، تصير حباً له أحلام وأمانٍ، وأصوات أخرى من أجيال أخرى، تصيرها وأنت تبتعد أكثر عن البيادر، تصرخ ولا صدى، تلتحف الصمت أحياناً، وأحياناً يطوقك.
يغدو نهماً الحب، تبحث عنه في أزقة المدن التي تكدسه، تراقبه بفناجين وأقداح وشموع، بينما يراقب جوعك وتخمتك، لا أحد يتخمه الحب، مثل هذا البحث، الذي يجعلك أكثر معرفة به، لا حب في هذه الأزقة، حين توقن بأنه لا طائل من كل هذه الصباحات المتكررة، يصبح مجرد دمامل ما تلبث أن يفقأها الزمن، وتتحول أنت لعجينة خبز قادم، تحكي انكسارك وخساراتك، ولا حب.
هذا الحب عرفته تلة تراب صغيرة، ينمو كل يومٍ أكثر مما نمت الأشجار التي تظلنا، وأكثر مما يحلق الدوري الذي نصطاد، "الفاقوسة والحالوش”*، كان كل ما نملك، وبعض الحجارة لضرب الملل ومحاولة كسره، كبر حتى صار بركاناً، أشعل حزنا في القلب ورحل. لا حبّ إذاً، مجرد تهيؤات وفجوة في القلب، اختلال في معان متراكمة، كل هذا مجرَّدُ بحثٍ عنه، كلنا في سبيل هذا المجد، ننظر للماء بعين وللسعير بقلب، مجرد موجة حر أو زوبعة رمل، ما تلبث أن تنطفئ، أو يقتلها حزن.
تصبح الأيام مصانع حزنك، تعلمك الصمت، حين تصاب بالفقد لأول مرة، تخسر حباً كاملاً، شخصاً، شخصين، بيوتاً، بلاداً، غرفاً، تنتابك موجة كراهية أكبر من هذا الحب، أكبر من قلبك المثقل بالفراغ، يكفيك أن تبتعد عن هذه الأرض، لتخسر حروبك كلها، مهما جملت ملامحك انتصارات بلا طائل، انتصارات بلا دفء خبز أمك، أو صوت دفوف لا تعرف القمر المشمشي.
____________________________________
*الفاقوسة والحالوش : الفخ والدودة المستخدمة لاصطياد الطيور.
كنا نعلم في قرارة أنفسنا أنّه سيكبر، سيصبح طريق بلوغ درب من النظرات لفتيات لا يعرفْن معانيه، في شوارع مدارسنا المتباعدة، طريقاً يفضي لغرائز لا تنتهي. سيكبر ويصبح بدايات لحى ومثبّت شعر. وابنة عمٍّ في عرس تمسِك يدك في الدبكة. سيكبر ويبقى يرقص على صوت الطبلة وأصوات العجائز. حين كانت السماء أبعد من سقف حانة، وأوسع من شوارع المدن التي لا تكسوها السماء، كان الحب أبسط من كأس، أعظم من نبوءة. هذه الأرض، كانت وما زالت، برزخ الأماني والتيه، وكنت بلا ذات، محض فكرة وحيدة الخلية، تحمل كل شيء في داخلها، قاتلاً وشاعراً ورساماً وحائراً وضحية، وأحياناً نبياً مرجومًا ومصلوبًا، وأحياناً جلاداً صامتًا، يكتم الضحك والحقد. ذاتاً خاوية كنت، أراقب قومي والقمر، الأواني بأيديهم يضرمون نار الضجة، كي لا يبتلع الوحش هذه الكرة المشمشية، وكنت ابتلع الليل بصمتي وما زلت. يراقبني قومي من قوقعتي، بكل حب، وكل هذا الحب، كان مجرد قمر في الكف بلا ضياء.
وبعد هذا، تصير أنت حُبّاً كاملاً، كتلةٌ لا تتغيَّر ملامحها، لك همّ محدث، وعيون أوسع من يد ابنة عم في حب مضى، تصير حباً له أحلام وأمانٍ، وأصوات أخرى من أجيال أخرى، تصيرها وأنت تبتعد أكثر عن البيادر، تصرخ ولا صدى، تلتحف الصمت أحياناً، وأحياناً يطوقك.
يغدو نهماً الحب، تبحث عنه في أزقة المدن التي تكدسه، تراقبه بفناجين وأقداح وشموع، بينما يراقب جوعك وتخمتك، لا أحد يتخمه الحب، مثل هذا البحث، الذي يجعلك أكثر معرفة به، لا حب في هذه الأزقة، حين توقن بأنه لا طائل من كل هذه الصباحات المتكررة، يصبح مجرد دمامل ما تلبث أن يفقأها الزمن، وتتحول أنت لعجينة خبز قادم، تحكي انكسارك وخساراتك، ولا حب.
هذا الحب عرفته تلة تراب صغيرة، ينمو كل يومٍ أكثر مما نمت الأشجار التي تظلنا، وأكثر مما يحلق الدوري الذي نصطاد، "الفاقوسة والحالوش”*، كان كل ما نملك، وبعض الحجارة لضرب الملل ومحاولة كسره، كبر حتى صار بركاناً، أشعل حزنا في القلب ورحل. لا حبّ إذاً، مجرد تهيؤات وفجوة في القلب، اختلال في معان متراكمة، كل هذا مجرَّدُ بحثٍ عنه، كلنا في سبيل هذا المجد، ننظر للماء بعين وللسعير بقلب، مجرد موجة حر أو زوبعة رمل، ما تلبث أن تنطفئ، أو يقتلها حزن.
تصبح الأيام مصانع حزنك، تعلمك الصمت، حين تصاب بالفقد لأول مرة، تخسر حباً كاملاً، شخصاً، شخصين، بيوتاً، بلاداً، غرفاً، تنتابك موجة كراهية أكبر من هذا الحب، أكبر من قلبك المثقل بالفراغ، يكفيك أن تبتعد عن هذه الأرض، لتخسر حروبك كلها، مهما جملت ملامحك انتصارات بلا طائل، انتصارات بلا دفء خبز أمك، أو صوت دفوف لا تعرف القمر المشمشي.
____________________________________
*الفاقوسة والحالوش : الفخ والدودة المستخدمة لاصطياد الطيور.