القيادة التقليدية في الحزب الديمقراطي اتبعت حتى الآن استراتيجية عدم التدخّل في الانتخابات التمهيدية لأنها تعلّمت من دروس عام 2016، حين تدخلت لصالح وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون على حساب ساندرز، ما أدى حينها إلى امتعاض داخل القاعدة اليسارية التي لم تخرج بحماسة لتصوّت لكلينتون في الانتخابات العامة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016. لكن عدم أخذ المؤسسة الديمقراطية احتمال فوز ساندرز بجدية قبل أربع سنوات، جعل المرشح اليساري يفاجئ الجميع في قدرته على المنافسة، ما أدى بعدها إلى مواجهة شرسة بين كلينتون وساندرز. هذا السيناريو يتكرّر هذا العام، لكن هذه المرة بدأت القيادة التقليدية في الحزب تقرع جرس الإنذار مبكراً، في ظلّ حيرتها حول كيفية التعامل مع ساندرز.
وبدأ المرشح اليساري يلعب على هذا الوتر، ويبدو مستعداً لمواجهة القيادة التقليدية للحزب الديمقراطي وإرباكها. فخلال مهرجان انتخابي مع مناصريه في ولاية آيوا أخيراً، قال ساندرز بتهكّم: "فجأة، المؤسسة الديمقراطية لدينا متوترة جداً حول هذه الحملة. لقد جعلنا وول ستريت متوترة. بدأوا يفكرون، هل هذا يمكن أن يحصل فعلاً؟ نحن أسوأ كوابيسهم". وكان تركيز النافذين في الحزب الديمقراطي خلال الفترة الماضية، على إحراج زميلة ساندرز في مجلس الشيوخ، إليزابيث وارن، في ظلّ خطابها اليساري حول إعادة توزيع الثروات، وبالتالي كان الافتراض أنّ ظاهرة ساندرز انتهى مفعولها، ولا يمكنه تحقيق المعجزات في انتخابات 2020، لا سيما بعد خضوعه لعملية جراحية في القلب في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
لكن تمسّك القاعدة اليسارية بساندرز قلب المعادلات مرة أخرى، وأدى إلى إطلاق سلسلة مقالات في الإعلام الأميركي حول ما يعنيه احتمال فوزه بالرئاسة، وكيف يمكن لمرشح اشتراكي أن يتعايش مع نظام فيدرالي يعتقد بالرأسمالية. النقاش بين الليبراليين حول أفضل استراتيجية لهزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة لا يزال من دون إجابة واضحة، وهذا ينعكس في استطلاعات الرأي. تقول القيادة التقليدية للديمقراطيين، إنّ تركيز الليبراليين في الانتخابات العامة يجب أن يكون على الأصوات المتأرجحة انتخابياً والمستقلين، ما يعني اختيار شخصية وسطية مثل نائب الرئيس الأسبق جو بايدن. النظرية المضادة التي يقودها ساندرز تقول إنّ مفتاح الفوز هو تحفيز القاعدة اليسارية للخروج إلى التصويت، وهي مقاربة مشابهة لاستراتيجية ترامب حيال اليمين الأميركي.
هذه هي مشكلة القيادة التقليدية مع ساندرز، باعتباره مرشّحاً مستقلّاً يأتي من خارج الحزب ويسعى لأخذ الديمقراطيين إلى اليسار. والحيرة في التعامل معه أنه أكثر خطورة إذا خرج من خيمة الحزب الديمقراطي، لأنه سيأخذ معه عدداً كبيراً من المناصرين في حال ترشّح كمستقلّ للرئاسة. في انتخابات عام 2016، فاز ساندرز في 23 ولاية وحصل على تأييد 45 في المائة من مندوبي الحزب الديمقراطي. كما يواصل قوته في جمع التبرعات من عدد كبير من المناصرين، إذ جمع 34.5 مليون دولار في الربع الأخير من العام الماضي. ولدى حملة ساندرز حركة سياسية ملتزمة وماكينة انتخابية هي الأكثر تنظيماً بين المرشحين الديمقراطيين. وهو وقّع تعهّداً بأنه عضو في الحزب الديمقراطي، وأنه سيخدم كرئيس ديمقراطي في حال فوزه، لكنه لا يزال مسجلاً كمستقلّ في مجلس الشيوخ.
التحدي أمام القيادة التقليدية هو إذا ما يجب الآن التهجّم على ساندرز لوقف هذا الزخم الانتخابي حياله، وبالتالي المخاطرة بتقليب القاعدة اليسارية ضدّ الحزب الديمقراطي، أو ترك الأمور كما هي، أي احتمال أن يفوز ساندرز في الانتخابات التمهيدية من دون رادع. في السياق، كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالاً تحت عنوان "بيرني ساندرز وجيشه في الإنترنت"، وصفت فيه قوة مناصري المرشّح اليساري على وسائل التواصل الاجتماعي.
محاولات وقف صعود ساندرز لم تنجح حتى الآن، كما نجحت مع وارن التي تراجعت في استطلاعات الرأي بعد تساؤلات في الإعلام الأميركي حول كيف يمكن توفير الأموال لمشروعها المكلف للرعاية الصحية؟ والقيادة التقليدية تلوم الإعلام الليبرالي على عدم طرح تساؤلات حول برامج ساندرز الانتخابية، كما يفعل هذا الإعلام مع بايدن ووارن.
ويتصدّر ساندرز استطلاعات الرأي في ولاية آيوا التي تقترع في 3 فبراير/شباط المقبل ونيوهامبشير في الـ11 من الشهر نفسه، وقد يكون صعباً وقف هذا الزخم لصالحه على بُعد أيام من انتخابات آيوا، لا سيما أنه لم يتعرّض لأي هجوم جدي من منافسيه خلال المناظرات الرئاسية السابقة.
من جهته، لم يغيّر بايدن تكتيكه حتى الآن، ويعطي مؤشرات بأنه لن يتهجّم على ساندرز، بل يفضّل أن يستمر في لعبة النفس الطويل، أي انتظار ولايات مثل كارولينا الجنوبية التي ستعوّض خسارة نائب الرئيس الأسبق المحتملة في آيوا ونيوهامشير، لا سيما أنّ بايدن لا يزال يتصدّر ولو بشكل طفيف استطلاعات الرأي على المستوى الوطني. وارن أيضاً يبدو أنها لن تضغط على ساندرز، والتوتر الأخير بينهما أدى إلى ارتباك في التيار اليساري، لكن هذا لم يؤثر حتى الآن على صعود المرشّح اليساري في استطلاعات الرأي.
ويتوقّع فريق ساندرز أن تتكثف الحملات ضده في المرحلة المقبلة، وما يساعده الآن نسبياً هو تركيز الإعلام الأميركي على محاكمة عزل ترامب في الكونغرس، لكن ستخرج تباعاً أصوات من المؤسسة الديمقراطية ومرشحيها للتحذير من مخاطر فوز ساندرز في الانتخابات التمهيدية. حملته تستغلّ هذه المسألة لجمع التبرعات، بحيث أرسلت بريداً إلكترونياً للمناصرين تحت عنوان "نحن نتعرض لهجوم، ساعدونا للرد".
الحزب الديمقراطي يتحوّل تدريجياً إلى اليسار، لكن القيادة التقليدية في الحزب لا تزال غير قادرة على التأقلم مع هذا التحوّل في المزاج الليبرالي. وطريقة التعامل مع ظاهرة ساندرز قد تكون أكبر تحدٍ أمام الديمقراطيين هذا العام.