صفقة القرن أردنياً .. السياقات وخيارات المواجهة
عبادة العلي
يقول تعبير إنكليزي شائع في السياسة "Do not bite off more than you can chew"، وعربيا "لا تقضم أكثر مما تهضم".. لا يمكن التمثيل على هذه الفكرة بأفضل من سياسات إسرائيل في التعامل مع القضية الفلسطينية، فقد أتقنت إسرائيل، منذ تأسيسها "القضم"، بإحداث وقائع على الأرض من دون استنادٍ لأي من المواثيق الدولية وقرارات الأمم المتحدة، ثم "هضم" ذلك باقتناص الفرصة المناسبة لشرعنة هذه المستجدّات على الأرض، إما أمميا، أو من راع دولي منفرد حين يتعذّر ذلك دوليا. وتمكن قراءة ذلك منذ قيام إسرائيل مرورا بالنكبة في العام 1948 والنكسة في 1967، وما تمت شرعنته دوليا بقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، وانتهاء بملف الاستيطان ونقل الولايات المتحدة سفارتها إلى القدس المحتلة، منفردة عن الإجماع الدولي.
وجاء إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ورئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، معا في البيت الأبيض في 28 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) عن ما سمّيت إعلاميا صفقة القرن في سياق "الهضم" بمحاولة إضفاء الشرعية. أما الصفقة ذاتها فهي ما تم "قضمه" أصلا إسرائيليا، فالقدس موحدة تحت السيادة الإسرائيلية، والسلطة الفلسطينية بلا أي سيادة على الضفة الغربية، والمستوطنات وغور الأردن تحت القبضة الإسرائيلية.
تجلية هذا أساسي لأي قراءة موضوعية وسليمة، إذ يحاول بعضهم التعمية على كل السياقات التاريخية، ويريد أن يقطع لنا تذكرة مجتزأة لحضور آخر فصل من المسرحية، الفصل المعنون "صفقة القرن" هدية تاريخية يقدّمها الرئيس ترامب لرئيس وزراء يتعرّض للإدانة بتهم فساد، نتنياهو، ويفشل مرتين في تشكيل حكومة، وهو في طريقه إلى انتخابات ثالثة (سابقة لم تحصل في إسرائيل). وعليه يذهب أصحاب هذه القراءة للتسخيف من الصفقة، ويذكرون مبادرات
أميركية قتلت في مهدها (مبادرة روجرز 1970، ومشروع بريجنسكي 1977، و"مبادرة السلام الأميركي لشعوب الشرق الأوسط" المطروحة من الرئيس ريغان عام 1982، وخريطة الطريق في عهد الرئيس بوش الابن 2002). ويعول أصحاب هذه القراءة على عدم التجديد لترامب أو نتنياهو في الانتخابات الأميركية والإسرائيلية. ولكن باستقراء التمدّد الإسرائيلي والرعاية الأميركية، يتبين أن هذه القراءة تنتمي للتفكير الرغائبي، لا التحليل الموضوعي، فقد أثبتت الوقائع التاريخية أن إسرائيل ماضيةٌ في إحداث وقائع جديدة على الأرض، من دون اعتبار كبير للحزب الذي يقود حكومتها (حضر زعيم حزب "أزرق أبيض"، بيني غانتس، المنافس الرئيس لنتنياهو، إلى البيت الأبيض قبل إعلان الصفقة بيوم، للتأكيد على موافقته عليها في حال فوزه بتشكيل الحكومة). أما الوسيط الأميركي فأخذ بالانحياز أكثر للرؤية الإسرائيلية. المسألة إذن متعلقة فقط بتقدير النسبة في السرعة بين "القضم" و"الهضم". وعليه، لن ينجح الانتظار السلبي للانتخابات الإسرائيلية أو الأميركية إلا بتأخير ما هو آت أصلا، إن لم نبادر، نحن العرب، إلى فعل إيجابي لمقاومة المخططات الإسرائيلية.
أردنيًا، ماذا تعني الصفقة؟
1- سياسيًا: عنت الصفقة للنظام الأردني الاستغناء عنه أميركياً لجهة "الشراكة" في الملف الفلسطيني، والإبقاء عليه لجهة "التنفيذ". هذا ما بدا واضحا من تكرار كل المعبّرين عن السياسة الخارجية الأردنية منذ بدء الحديث عن الصفقة قبل ثلاث سنوات، أن "الأردن لا يعلم شيئا عن ما يسمى صفقة القرن" (لسنا شركاء) مقابل مدح ترامب، وقت إعلان الصفقة، "ملك الأردن الرائع الذي سيساعد في تنفيذ هذه الخطة" (المطلوب أردنيا هو التنفيذ فقط).
هذا ما كان ليتم أميركيا، لولا مساعدة عواصم عربية تعتبر تاريخيا صديقة لعمّان، شارك جزء منها في اجتماع الإعلان عن الصفقة، وامتنع جزء آخر عن المشاركة في الإعلان، ولكنه هرع لبيان تأييده للصفقة.
كان الأردن الرسمي، ومن خلال تاريخه وموقعه وتشابك ملفاته مع فلسطين، يرى أن دعمه المتواصل للسلطة الفلسطينية كفيلٌ بأن يبقيه الجسر الإجباري لحل "الصراع العربي الإسرائيلي"، وهذا ما وفر للنظام الأردني حضورًا دوليًا مهمًا لعقود، والقضية الفلسطينية جنبا إلى جنب مع مكافحة الإرهاب شكلتا الركنين الأساسيين للخطاب الأردني الرسمي الذي يعرّف من خلاله الأردن أهميته الجيوستراتيجية، وتمكّن مراجعة خطابات الملك عبدالله ومقابلاته في المحافل الدولية، ومع القنوات العالمية، وتحليل مضمون الخطاب فيها، لمعرفة أهمية هذين الملفين بالنسبة للملك، وما يعنيان له كركائز للشرعية السياسية على المستوى الدولي.
يرى الأردن الرسمي اليوم نفسه خارج هذه المعادلة التقليدية، فترامب لا يؤمن بالشراكة إلا بمنطق الصفقات، واليمين الإسرائيلي غير مقتنع عمليا بحل الدولتين وهو بهذا لا يحتاج طرفا آخر يشاركه. وبالتالي، لا يحتاج وسيطا للتواصل معه. أما الضربة الكبرى فجاءت من الأصدقاء العرب الذين شكل دعمهم للصفقة من دون الأردن، تجاوزا لاعترافهم بالدور التقليدي للأردن في الصراع العربي الإسرائيلي، هذا طبعا على اعتبار أن فكرة "الصراع العربي الإسرائيلي" ما زالت قائمة بالنسبة لهم.
2- عسكريًا وأمنيًا: الخرائط الجديدة الموعودة التي أعلنها ترامب بحضور نتنياهو فضلا عن جعلها لفلسطين أرخبيلا مشوهًا غير قابل للحياة، فهي تقطع أي تواصل جغرافي مباشر بين الأردن وفلسطين بريًا
وبحريًا (مساحات متجاورة، لا جسورا وأنفاقا). وهذا يشكل للجيش الأردني تحدّيا كبيرا بجعل كامل حدوده مع إسرائيل من دون الفلسطينيين، ولعل هذا ما حدا بالأردن للرد على تصريحات نتنياهو بضم غور الأردن من بوابة المؤسسة العسكرية الأردنية بإشهار مناوراتها أخيرا "سيوف الكرامة" التي حاكت هجماتٍ من الجانب الغربي للأردن. وقد اكتسبت هذه المناورات رمزية كبيرة، لا من باب دلالة اسمها وتذكيرها بحرب الكرامة فحسب، وإنما أيضا من حشد القيادات السياسية والعسكرية جميعها ابتداء بالملك ورئيس الوزراء، وصولا إلى طلبة جامعات، ما اعتبر، بحسب الصحف الإسرائيلية، إشارةً مهمةً يجب أخذها بعين الاعتبار بشأن خطورة ضم غور الأردن بالنسبة للأردن (الأراضي المحاذية للنهر من ضفته الغربية).
3- استراتيجيًا: الحل المطروح يعني عمليا إنهاء حل الدولتين، إذ كيف يمكن لدولةٍ منزوعة السيادة والسلاح، محتضنةٍ (أو بالأحرى مخنوقة بالكامل) من دولةٍ تمتلك أسلحة دمار شامل من دون أي حدود أخرى مع أي دولة صديقة، كيف يمكنها أن تكون، فضلا عن أن تستمر؟
يدفع هذا إلى الواجهة ما كان يطرح سابقا من أطراف في اليمين الإسرائيلي عن "الخيار الأردني"، وهو ما يعني، باختصار، التخلص من فكرة الدولة الفلسطينية، ثم تصفية القضية الفلسطينية، من خلال الضغط على فلسطينيي الضفة الغربية بكل الوسائل وترحيلهم للخارج وخصوصا الأردن، ثم التفكير بإقامة الدولة الفلسطينية هناك شرق النهر، بدل غربيه، وسواء كانت إسرائيل معنيةً بإقامة دولة فلسطينية حقيقة شرقي النهر، أو مجرد التخلص من الفلسطينيين، وتفجير صراعات هويات في الأردن، فإن هذا لا يعني فقط إنهاء القضية الفلسطينية، وإنما يعني إنهاء الدولة الأردنية بشكلها الحالي، وهو ما ردّ عليه الملك عبدالله الثاني، في أكثر من مناسبة، مختارا، في معظم مناسباته للرد، الزي العسكري.
الخيارات المطروحة
شكل الأردن الرسمي، طوال عقود من الصراع العربي الإسرائيلي، شبكة واسعة من العلاقات تؤهله لحجز مقعد أساسي في أي عملية تفاوضٍ تتعلق بالقضية الفلسطينية، ولكن المشكلة الأساسية أن خيارات عمّان كانت محصورة بمحدّدين: وجود بيئةٍ دوليةٍ ملتزمة بقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، وفي مقدمها الولايات المتحدة والأوروبيون. وجود حاضنة عربية رسمية كانت تجعل من إنشاء دولة فلسطينية مقدمة لأي تطبيع بين إسرائيل والعرب وهذا ما عنته مبادرة السلام العربية المقدمة سعوديا والمدعومة فلسطينيا وأردنيا والمجمع عليها عربيا.
المشكلة الكبرى اليوم أن هذين المحدّدين قد تغيّرا تماما، فالبيئة الدولية اليوم لم تعد تعني الكثير في حسابات إدارة أميركية تفضل العمل منفردة وتبرم الصفقات وتنسحب من معاهدات، من دون الحلفاء الأوروبيين. بدأ ذلك بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية المناخ، وفتحها النقاش بشأن حصص الإنفاق على الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو). وتجلى بشكل أوضح بخروج الإدارة الأميركية من الاتفاق النووي الإيراني، وهو ما لم تستطع الدول الأوروبية فعل شيء حياله. أما نحن في المنطقة، فقد عايشنا هذا السلوك الأميركي مباشرة بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، وانسحابها من تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، واعترافها بالمستوطنات (نقل السفارة وقطع تمويل "أونروا" والاعتراف بالمستوطنات خطوات عملية أقدمت عليها الإدارة الأميركية قبل إعلان الصفقة ومثلت رؤية الولايات المتحدة عمليا لقضايا الوضع النهائي المتعلقة بالقدس والحدود واللاجئين).
أما المحدّد الثاني الذي تغير فهو الحاضنة الرسمية العربية، إذ لم تعد ترى عدة عواصم عربية
مهمة تطبيع العلاقات مع إسرائيل مرتبطا بشرط سابق، وهو إقامة دولة فلسطينية، بل وتذهب هذه العواصم التي كانت تشترك مع عمّان في رؤيتها مسائل عديدة في الإقليم إلى أبعد من ذلك، بالضغط على عمّان لتمرير هذه الصفقة، والاستفادة من المنح والقروض المرصودة للأردن في الصفقة بواقع 7.4 مليارات دولار على مدى عشر سنوات.
وعليه، فإن تغير البيئة الدولية والعربية يحتّم على الأردن التكيف لإيجاد وسائل جديدة استجابة لهذا الواقع الجديد، هذا بالطبع إذا كان الأردن يقصد، فعلا لا قولا، مواجهة الصفقة.
سيناريوهات الفعل الأردني
جريا على سؤال الملك أمام البرلمان الأوروبي "ماذا لو"، والذي طرح فيه السيناريوهات الأسوأ من ضم القدس وإنهاء حل الدولتين، نتساءل نحن "ماذا لو" تم التجديد لترامب؟ هل سنستسلم للرؤية الأميركية التي تمثل رؤية اليمين الإسرائيلي، ولا تمثل، بحال، رؤية وسيط في الصراع (إذا سلمنا بنزاهة هذا الوسيط من قبل)؟
سيسعى الأردن إلى التواصل مع الأوروبيين، وربما مع الروس والصينيين أيضا، والاستناد لقرارات الشرعية الدولية للتأكيد على الثوابت المعتادة، ولكن هذا الخيار على الرغم من أهميته وضرورة فتح مسارات جديدة فيه إلا أنه لا يمكن أن يكون فعالا وحده في ظل غطرسة إسرائيلية وانحياز أميركي تام، أما التعويل على الوقت بانتظار الانتخابات الإسرائيلية والأميركية فقد لا يأتي بالبشائر دائما، بل وقد يجلب المزيد من المشكلات للأردن، فميزان القوى ليس في صالحنا على الإطلاق.
لا بد من الخروج عن الخيارات التقليدية في مواجهة الإدارة الإسرائيلية، فظروف البيئة العربية
والدولية ليست كما عهدها الأردن طوال تاريخ القضية الفلسطينية. وفي هذا السياق، آخر ما يحتاجه الأردن تسليم رقبة اقتصاده ورهن قطاع الطاقة بيد إسرائيل من خلال صفقة الغاز، الخطوة التي لم تنسجم مع خطوات تصعيدية أردنية تجاه إسرائيل، سواء في استعادة الباقورة والغمر ومحاكمة متسلل إسرائيلي، أو حتى الموقف المتقدّم في إعادة المعتقلين الأردنيين، عبد الرحمن مرعي وهبة اللبدي. وعليه، لا بد من إعادة التفكير أردنيا، جدّيا واستراتيجيا، بمعادلة علاقاته مع إسرائيل، المعادلة التي اعتادت أن تضع الاعتبار الاقتصادي والأمني في العلاقة بين البلدين بمعزل عن اعتبارات السياسة، فنحن اليوم لسنا أمام سياساتٍ عابرة لإدارةٍ إسرائيلية مستفزة، وإنما أمام تحوّلات استراتيجية يُراد فرض الرؤية الإسرائيلية فيها على الأردن والمنطقة ككل.
يجب أن تكون الخيارات الأردنية مفتوحةً، ابتداء مما اعتاده الأردن من طرق المحافل الدولية وكسب الرأي العام العالمي، وتعزيز صمود الأشقاء الفلسطينيين. ولكن علينا ألا نقف عند ذلك، والتفكير جدّيا بتنويع خياراتنا السياسية، وكسر التابوهات المتعلقة بإعادة النظر في اتفاقية وادي عربة، وإعادة العلاقات مع كل الفصائل الفلسطينية، وتحديدا حركة حماس، لفتح المجال أمام مصالحة فلسطينية حقيقية قابلة للحياة، وإعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، ويمكن للأمني أن يفتح من الأبواب بتغطيةٍ من السياسي في التعامل مع الفصائل الفلسطينية ما يمكن أن يشكل خيارات حقيقية حالا ومستقبلا.
لا يمكن أن يتم كل ما سبق إلا بجبهةٍ داخليةٍ موحدةٍ، تقوم على ركائز ثابتة من إصلاح سياسي يؤسس لكل الإصلاحات، وفي مقدمها الإصلاح الاقتصادي، تجنبا لمرحلةٍ يضطرّ فيها السياسي لأخذ خيارات غير منسجمةٍ مع مصالح الأردن العليا، استجابة لظروف اقتصادية داخلية خانقة أو ضغوط إقليمية ودولية، فالسياسة، وإن كانت فن الممكن في التعاطي مع الوقائع حالا، فهي أيضا فن إيجاد ممكناتٍ جديدة للتعاطي مع المتوقع مآلا، وهذا ما يجب أن يبدأ من اليوم فنحن أمام خطر وجودي قادم، لا يجوز لنا أن نتأخر عنه، حتى يطرق بابنا، ولات حين مناص.
تجلية هذا أساسي لأي قراءة موضوعية وسليمة، إذ يحاول بعضهم التعمية على كل السياقات التاريخية، ويريد أن يقطع لنا تذكرة مجتزأة لحضور آخر فصل من المسرحية، الفصل المعنون "صفقة القرن" هدية تاريخية يقدّمها الرئيس ترامب لرئيس وزراء يتعرّض للإدانة بتهم فساد، نتنياهو، ويفشل مرتين في تشكيل حكومة، وهو في طريقه إلى انتخابات ثالثة (سابقة لم تحصل في إسرائيل). وعليه يذهب أصحاب هذه القراءة للتسخيف من الصفقة، ويذكرون مبادرات
أردنيًا، ماذا تعني الصفقة؟
1- سياسيًا: عنت الصفقة للنظام الأردني الاستغناء عنه أميركياً لجهة "الشراكة" في الملف الفلسطيني، والإبقاء عليه لجهة "التنفيذ". هذا ما بدا واضحا من تكرار كل المعبّرين عن السياسة الخارجية الأردنية منذ بدء الحديث عن الصفقة قبل ثلاث سنوات، أن "الأردن لا يعلم شيئا عن ما يسمى صفقة القرن" (لسنا شركاء) مقابل مدح ترامب، وقت إعلان الصفقة، "ملك الأردن الرائع الذي سيساعد في تنفيذ هذه الخطة" (المطلوب أردنيا هو التنفيذ فقط).
هذا ما كان ليتم أميركيا، لولا مساعدة عواصم عربية تعتبر تاريخيا صديقة لعمّان، شارك جزء منها في اجتماع الإعلان عن الصفقة، وامتنع جزء آخر عن المشاركة في الإعلان، ولكنه هرع لبيان تأييده للصفقة.
كان الأردن الرسمي، ومن خلال تاريخه وموقعه وتشابك ملفاته مع فلسطين، يرى أن دعمه المتواصل للسلطة الفلسطينية كفيلٌ بأن يبقيه الجسر الإجباري لحل "الصراع العربي الإسرائيلي"، وهذا ما وفر للنظام الأردني حضورًا دوليًا مهمًا لعقود، والقضية الفلسطينية جنبا إلى جنب مع مكافحة الإرهاب شكلتا الركنين الأساسيين للخطاب الأردني الرسمي الذي يعرّف من خلاله الأردن أهميته الجيوستراتيجية، وتمكّن مراجعة خطابات الملك عبدالله ومقابلاته في المحافل الدولية، ومع القنوات العالمية، وتحليل مضمون الخطاب فيها، لمعرفة أهمية هذين الملفين بالنسبة للملك، وما يعنيان له كركائز للشرعية السياسية على المستوى الدولي.
يرى الأردن الرسمي اليوم نفسه خارج هذه المعادلة التقليدية، فترامب لا يؤمن بالشراكة إلا بمنطق الصفقات، واليمين الإسرائيلي غير مقتنع عمليا بحل الدولتين وهو بهذا لا يحتاج طرفا آخر يشاركه. وبالتالي، لا يحتاج وسيطا للتواصل معه. أما الضربة الكبرى فجاءت من الأصدقاء العرب الذين شكل دعمهم للصفقة من دون الأردن، تجاوزا لاعترافهم بالدور التقليدي للأردن في الصراع العربي الإسرائيلي، هذا طبعا على اعتبار أن فكرة "الصراع العربي الإسرائيلي" ما زالت قائمة بالنسبة لهم.
2- عسكريًا وأمنيًا: الخرائط الجديدة الموعودة التي أعلنها ترامب بحضور نتنياهو فضلا عن جعلها لفلسطين أرخبيلا مشوهًا غير قابل للحياة، فهي تقطع أي تواصل جغرافي مباشر بين الأردن وفلسطين بريًا
3- استراتيجيًا: الحل المطروح يعني عمليا إنهاء حل الدولتين، إذ كيف يمكن لدولةٍ منزوعة السيادة والسلاح، محتضنةٍ (أو بالأحرى مخنوقة بالكامل) من دولةٍ تمتلك أسلحة دمار شامل من دون أي حدود أخرى مع أي دولة صديقة، كيف يمكنها أن تكون، فضلا عن أن تستمر؟
يدفع هذا إلى الواجهة ما كان يطرح سابقا من أطراف في اليمين الإسرائيلي عن "الخيار الأردني"، وهو ما يعني، باختصار، التخلص من فكرة الدولة الفلسطينية، ثم تصفية القضية الفلسطينية، من خلال الضغط على فلسطينيي الضفة الغربية بكل الوسائل وترحيلهم للخارج وخصوصا الأردن، ثم التفكير بإقامة الدولة الفلسطينية هناك شرق النهر، بدل غربيه، وسواء كانت إسرائيل معنيةً بإقامة دولة فلسطينية حقيقة شرقي النهر، أو مجرد التخلص من الفلسطينيين، وتفجير صراعات هويات في الأردن، فإن هذا لا يعني فقط إنهاء القضية الفلسطينية، وإنما يعني إنهاء الدولة الأردنية بشكلها الحالي، وهو ما ردّ عليه الملك عبدالله الثاني، في أكثر من مناسبة، مختارا، في معظم مناسباته للرد، الزي العسكري.
الخيارات المطروحة
شكل الأردن الرسمي، طوال عقود من الصراع العربي الإسرائيلي، شبكة واسعة من العلاقات تؤهله لحجز مقعد أساسي في أي عملية تفاوضٍ تتعلق بالقضية الفلسطينية، ولكن المشكلة الأساسية أن خيارات عمّان كانت محصورة بمحدّدين: وجود بيئةٍ دوليةٍ ملتزمة بقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، وفي مقدمها الولايات المتحدة والأوروبيون. وجود حاضنة عربية رسمية كانت تجعل من إنشاء دولة فلسطينية مقدمة لأي تطبيع بين إسرائيل والعرب وهذا ما عنته مبادرة السلام العربية المقدمة سعوديا والمدعومة فلسطينيا وأردنيا والمجمع عليها عربيا.
المشكلة الكبرى اليوم أن هذين المحدّدين قد تغيّرا تماما، فالبيئة الدولية اليوم لم تعد تعني الكثير في حسابات إدارة أميركية تفضل العمل منفردة وتبرم الصفقات وتنسحب من معاهدات، من دون الحلفاء الأوروبيين. بدأ ذلك بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية المناخ، وفتحها النقاش بشأن حصص الإنفاق على الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو). وتجلى بشكل أوضح بخروج الإدارة الأميركية من الاتفاق النووي الإيراني، وهو ما لم تستطع الدول الأوروبية فعل شيء حياله. أما نحن في المنطقة، فقد عايشنا هذا السلوك الأميركي مباشرة بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، وانسحابها من تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، واعترافها بالمستوطنات (نقل السفارة وقطع تمويل "أونروا" والاعتراف بالمستوطنات خطوات عملية أقدمت عليها الإدارة الأميركية قبل إعلان الصفقة ومثلت رؤية الولايات المتحدة عمليا لقضايا الوضع النهائي المتعلقة بالقدس والحدود واللاجئين).
أما المحدّد الثاني الذي تغير فهو الحاضنة الرسمية العربية، إذ لم تعد ترى عدة عواصم عربية
وعليه، فإن تغير البيئة الدولية والعربية يحتّم على الأردن التكيف لإيجاد وسائل جديدة استجابة لهذا الواقع الجديد، هذا بالطبع إذا كان الأردن يقصد، فعلا لا قولا، مواجهة الصفقة.
سيناريوهات الفعل الأردني
جريا على سؤال الملك أمام البرلمان الأوروبي "ماذا لو"، والذي طرح فيه السيناريوهات الأسوأ من ضم القدس وإنهاء حل الدولتين، نتساءل نحن "ماذا لو" تم التجديد لترامب؟ هل سنستسلم للرؤية الأميركية التي تمثل رؤية اليمين الإسرائيلي، ولا تمثل، بحال، رؤية وسيط في الصراع (إذا سلمنا بنزاهة هذا الوسيط من قبل)؟
سيسعى الأردن إلى التواصل مع الأوروبيين، وربما مع الروس والصينيين أيضا، والاستناد لقرارات الشرعية الدولية للتأكيد على الثوابت المعتادة، ولكن هذا الخيار على الرغم من أهميته وضرورة فتح مسارات جديدة فيه إلا أنه لا يمكن أن يكون فعالا وحده في ظل غطرسة إسرائيلية وانحياز أميركي تام، أما التعويل على الوقت بانتظار الانتخابات الإسرائيلية والأميركية فقد لا يأتي بالبشائر دائما، بل وقد يجلب المزيد من المشكلات للأردن، فميزان القوى ليس في صالحنا على الإطلاق.
لا بد من الخروج عن الخيارات التقليدية في مواجهة الإدارة الإسرائيلية، فظروف البيئة العربية
يجب أن تكون الخيارات الأردنية مفتوحةً، ابتداء مما اعتاده الأردن من طرق المحافل الدولية وكسب الرأي العام العالمي، وتعزيز صمود الأشقاء الفلسطينيين. ولكن علينا ألا نقف عند ذلك، والتفكير جدّيا بتنويع خياراتنا السياسية، وكسر التابوهات المتعلقة بإعادة النظر في اتفاقية وادي عربة، وإعادة العلاقات مع كل الفصائل الفلسطينية، وتحديدا حركة حماس، لفتح المجال أمام مصالحة فلسطينية حقيقية قابلة للحياة، وإعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، ويمكن للأمني أن يفتح من الأبواب بتغطيةٍ من السياسي في التعامل مع الفصائل الفلسطينية ما يمكن أن يشكل خيارات حقيقية حالا ومستقبلا.
لا يمكن أن يتم كل ما سبق إلا بجبهةٍ داخليةٍ موحدةٍ، تقوم على ركائز ثابتة من إصلاح سياسي يؤسس لكل الإصلاحات، وفي مقدمها الإصلاح الاقتصادي، تجنبا لمرحلةٍ يضطرّ فيها السياسي لأخذ خيارات غير منسجمةٍ مع مصالح الأردن العليا، استجابة لظروف اقتصادية داخلية خانقة أو ضغوط إقليمية ودولية، فالسياسة، وإن كانت فن الممكن في التعاطي مع الوقائع حالا، فهي أيضا فن إيجاد ممكناتٍ جديدة للتعاطي مع المتوقع مآلا، وهذا ما يجب أن يبدأ من اليوم فنحن أمام خطر وجودي قادم، لا يجوز لنا أن نتأخر عنه، حتى يطرق بابنا، ولات حين مناص.
دلالات