28 يناير 2024
صلاة الغائب على الحاضر
أرجّح أن محمد مرسي صلى علينا، في قبره، صلاة "الغائب على الحاضر"، فيما لم نجد، نحن "الحاضرين"، مسجدًا عربيًّا واحدًا يتيح لنا أن نصلّي على مرسي صلاة "الحاضر على الغائب"، فمن كان "الحاضر" منا، ومن كان "الغائب"؟
لا أدري إذا كان سيسجل التاريخ العربي هذه الواقعة المفرطة في دمامتها أم لا، غير أنني على قناعةٍ بأن الأنظمة التي أغلقت أبواب مساجدها أمام المصلين، في ذلك اليوم الكالح، اقترفت خطأ فادحًا من حيث ظنت أنها فعلت الصواب، ولو كانت تعلم جيدًا دوافع الصلاة التي كان يعتزم المصلون أداءها، لربما شرّعت أبواب المساجد عن بكرة أبيها، ذلك أن الهدف الحقيقي للمصلين كان أداء الصلاة الأخيرة على روح الحرية التي طواها الغياب الأبديّ، مع أول رئيس عربي منتخب وربما يكون آخرهم، وعلى صندوق اقتراع تم خطفه، والتسلل به ليلًا، ليوارى في مقبرة مزوية شرق القاهرة، بحضور ثمانية مشيّعين فقط.
كان المصلون ينتوون أن يصلّوا على كوكبة غائبين لم يحضروا أبدًا في حاضرهم البائس، من الوحدة إلى التحرير، ومن الظلم إلى العدالة، ومن التسلط والاستبداد إلى الحرية والتحليق. لم يكن في نيتهم، أبدًا، أن يفجّروا ثورة أخرى، بل أرادوا دفن جثامين أحلام عربية تعفّنت وزكمت روائحها الأنوف؛ فقد صارت لديهم من الخبرات الدامية ما يؤهلهم ليعرفوا مصائر ثوراتهم حين يتم اختطافها على أيدي لصوص متربصين، كالسيسي وابنيْ زايد وسلمان وحميدتي. غير أن هذه الأنظمة خشيت، كعادتها، أن "ينحرف" مسار جموع المصلين عن أهدافه المعلنة إلى أهداف أخرى تتحوّل فيها الصلاة من تلاوات وأدعية إلى هتافاتٍ وشعاراتٍ تزلزل عروشهم، وتقضّ مضاجع فسادهم، وتعيد تذكير الشعوب بثورات الربيع العربية المقبورة في قبورٍ بلا شواهد وعناوين في صحارى الدهناء والربع الخالي، فسارعت إلى منع صلاةٍ كانت تعلم جيدًا أن من شأنها أن تغضب السيسي وزبانيته؛ لأنها تمنح الشرعية لرئيس "حيّ" في قبره، وتخلعها عن رئيس "ميّت" على عرشه... كانت تخشى أن تستذكر الشعوب تعاليم ومواقف رئيس لم يكن يرى في الرئاسة إلا معبرًا لاستعادة مصر من براثن فراعنتها الذين أمعنوا فيها إذلالًا وتهميشًا إلى الحدّ الذي تحولت فيه "أمّ الدنيا" إلى دولةٍ تتسوّل "الرز" من أقزام بعض دول الخليج، ولا تحلم بأزيد من رضى واشنطن وتل أبيب، ولا تمنعها سيادتُها من بيع جزرها للسعودية، والتفريط في سيناء لإقامة كيان فلسطيني، ضمن صفقة قرن مغروسٍ في الخاصرة الفلسطينية وظهر الأمة العربية.
قدرُ مرسي أن يحيا فقيرًا، وأن يموت فقيرًا حتى في مراسم التشييع التي لا تليق حتى بمجهول هوية متوفى على رصيف ناءٍ، غير أن ذلك لا يضيره هو الذي كان يعلم، جيدًا، أنه قتل قبل ست سنوات مع ضحايا ميدان رابعة العدوية، وأن ما بينه وبين قبره ليس أزيد من محاكماتٍ صورية، لا هدف منها غير محاكمة ثورة 25 يناير ذاتها التي أوصلته إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، ولا مأرب لمسرحياتها سوى تدوين خاتمةٍ كئيبةٍ لأي محاولةٍ للنهوض العربي. كان الشعب المصري ذاته من يقف وراء القضبان، وليس مرسي وحده، بل شعوب البلاد العربية التي شهدت ثوراتٍ مماثلة، أو التي تحلم حتى بتفجير تلك الثورات، وكان القضاة دمى أيضًا، وجزءًا من "كومبارس" المسرحية، وكذلك المدّعون العامون والمحامون والشهود والحضور. أما القضاة الحقيقيون والمخرجون، فكانوا يديرون وقائع المحاكمات من "منصّات" أخرى، كمنصات النفط العائمة التي توزع أرباحها على المستثمرين في وأد الثورات العربية وأحلام شعوبها.
وأما محمد مرسي الذي مات "ثريًّا" بما تفيض به أرصدته من دموع الفقراء الذين بكوه في المدن العربية والإسلامية كلها، فقد نهض، وأعلن أن "الصلاة" جامعة.. صلاة "الغائب على الحاضر".
كان المصلون ينتوون أن يصلّوا على كوكبة غائبين لم يحضروا أبدًا في حاضرهم البائس، من الوحدة إلى التحرير، ومن الظلم إلى العدالة، ومن التسلط والاستبداد إلى الحرية والتحليق. لم يكن في نيتهم، أبدًا، أن يفجّروا ثورة أخرى، بل أرادوا دفن جثامين أحلام عربية تعفّنت وزكمت روائحها الأنوف؛ فقد صارت لديهم من الخبرات الدامية ما يؤهلهم ليعرفوا مصائر ثوراتهم حين يتم اختطافها على أيدي لصوص متربصين، كالسيسي وابنيْ زايد وسلمان وحميدتي. غير أن هذه الأنظمة خشيت، كعادتها، أن "ينحرف" مسار جموع المصلين عن أهدافه المعلنة إلى أهداف أخرى تتحوّل فيها الصلاة من تلاوات وأدعية إلى هتافاتٍ وشعاراتٍ تزلزل عروشهم، وتقضّ مضاجع فسادهم، وتعيد تذكير الشعوب بثورات الربيع العربية المقبورة في قبورٍ بلا شواهد وعناوين في صحارى الدهناء والربع الخالي، فسارعت إلى منع صلاةٍ كانت تعلم جيدًا أن من شأنها أن تغضب السيسي وزبانيته؛ لأنها تمنح الشرعية لرئيس "حيّ" في قبره، وتخلعها عن رئيس "ميّت" على عرشه... كانت تخشى أن تستذكر الشعوب تعاليم ومواقف رئيس لم يكن يرى في الرئاسة إلا معبرًا لاستعادة مصر من براثن فراعنتها الذين أمعنوا فيها إذلالًا وتهميشًا إلى الحدّ الذي تحولت فيه "أمّ الدنيا" إلى دولةٍ تتسوّل "الرز" من أقزام بعض دول الخليج، ولا تحلم بأزيد من رضى واشنطن وتل أبيب، ولا تمنعها سيادتُها من بيع جزرها للسعودية، والتفريط في سيناء لإقامة كيان فلسطيني، ضمن صفقة قرن مغروسٍ في الخاصرة الفلسطينية وظهر الأمة العربية.
قدرُ مرسي أن يحيا فقيرًا، وأن يموت فقيرًا حتى في مراسم التشييع التي لا تليق حتى بمجهول هوية متوفى على رصيف ناءٍ، غير أن ذلك لا يضيره هو الذي كان يعلم، جيدًا، أنه قتل قبل ست سنوات مع ضحايا ميدان رابعة العدوية، وأن ما بينه وبين قبره ليس أزيد من محاكماتٍ صورية، لا هدف منها غير محاكمة ثورة 25 يناير ذاتها التي أوصلته إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، ولا مأرب لمسرحياتها سوى تدوين خاتمةٍ كئيبةٍ لأي محاولةٍ للنهوض العربي. كان الشعب المصري ذاته من يقف وراء القضبان، وليس مرسي وحده، بل شعوب البلاد العربية التي شهدت ثوراتٍ مماثلة، أو التي تحلم حتى بتفجير تلك الثورات، وكان القضاة دمى أيضًا، وجزءًا من "كومبارس" المسرحية، وكذلك المدّعون العامون والمحامون والشهود والحضور. أما القضاة الحقيقيون والمخرجون، فكانوا يديرون وقائع المحاكمات من "منصّات" أخرى، كمنصات النفط العائمة التي توزع أرباحها على المستثمرين في وأد الثورات العربية وأحلام شعوبها.
وأما محمد مرسي الذي مات "ثريًّا" بما تفيض به أرصدته من دموع الفقراء الذين بكوه في المدن العربية والإسلامية كلها، فقد نهض، وأعلن أن "الصلاة" جامعة.. صلاة "الغائب على الحاضر".