يحدّد مؤرخّو الفن عام 1908 باعتباره نقطة مرجعية للبدايات الحقيقة للتشكيل المصري مع تأسيس "مدرسة الفنون الجميلة"، على يد الأمير يوسف كمال (1882 – 1965) وبروز محاولات جادة لإحياء الروح والهوية والشخصية الوطنية لدى أعمال كثيرين، وفي مقدّمتهم محمود سعيد ومحمود مختار ويوسف كامل وراغب عياد.
في مرحلة لاحقة بدأت في الأربعينيات والخمسينيات، تكرّست أسماء عديدة زاوجت بين الممارسة وتدريس الحداثة الفنية، مثل صلاح عبد الكريم ( 1925 - 1988) ومحمد إسماعيل (1936 – 1993) اللذين يحتضن غاليري "سفر خان" في القاهرة معرضاً استعادياً لتجربتيهما بعنوان "الأسطورة"، ويتواصل حتى الثاني من كانون الثاني/ يناير المقبل.
أكمل عبد الكريم دراساته العليا في تخصّصات متعدّدة بعد نيله شهادة جامعية من "كلية الفنون الجميلة" في القاهرة، حيث درس في فرنسا الديكور المسرحي والإعلان والتصوير، ثم سافر إلى إيطاليا لدراسة الديكور السينمائي والخزف، وعاد ليعمل أستاذاً في أكثر من مجال فني.
ونفّذ منحوتة من خردة الحديد بعنوان "سمكة متوحشّة" لتُعرض في "بينالي ساو باولو" عام 1952 وينال جائزة عليها، مقدّماً أعمالاً تعبيرية تقوم على فكرة النحت في الفراغ الذي لم يكن سائداً في المشهد المصري، آنذاك، وتركّزت أعماله على تجسيد لأشكال حيوانية منها "صرخة وحش" الذي يجسّد كائناً بقوائم قصيرة ورأس ضخم، و"جمجمة" بتكوين هيكل عظمي لرأس حيوان.
انزاح عبد الكريم بعد ذلك إلى تجريب يحيل إلى مفاهيم فلسفية أو أبعاد ميثولوجية، ففدّم جسد امرأة تحمل آنية من القش تقف عليه مجموعة من الطيور، و"قاع البحر" وتمثّل وعاء كبيراً من الحديد والمعادن يضمّ تشكيلات زخرفية لمفردات أسطورية تصوّر رؤية الإنسان المصري القديم إلى الماء.
يتشارك محمد إسماعيل مع مجايله في النظر إلى الفن بوصفه عملية تجريبية، فلا حدود وفواصل بين التعلّم والتعليم، وقد حاز درجة الدكتوراه في تاريخ الفن، وبدأ التدريس في فترة متقاربة في "كلية الفنون الجميلة"، واقترنت تجربته بالمكان مع عشرات اللوحات التي تناولت معالم محدّدة في الإسكندرية التي نشأ فيها، مثل الشوارع والمقاهي والحدائق وسباق الخيل والسيرك والألعاب الرياضية والمنتديات العامة والحياة الفنية التي عاشتها المدينة.
استحوذت التكعيبية على أعماله في الخمسينيات والستينيات، مقدّماً إياها بطريقة متأنقة تعكس تأثره بـ"ديكو آرت"؛ أو الفن الزخرفي الشعبي، الذي شاع في أوروبا عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، حيث التقط منها تلك الطرز البدائية كالخطوط الأفريقية، والفرعونية، والأزتكية التي سيوظفّها في كتابة النص الهيروغليفي على "مسلة رمسيس الثاني"، التي نُصبت في مطار القاهرة.
قدّم إسماعيل أيضاً لوحات تنزع نحو التجريد ضمن استثمار حروف ورموز مصرية قديمة يهيمن عليها الأبيض والأسود بشكل أساسي، والتي طورّها لاحقاً عبر الاهتمام بتفاصيل كأنها قطع فسيفساء متراصّة لتشكّل بانوراما مشهدية فرعونية متكاملة.