صلّوا للتطبيع

13 مارس 2018
+ الخط -
كنا قد قبلنا على مضض أن يمشّط زعماؤنا لحاهم، ويهرعوا إلى المساجد كل جمعة، ليرعوا صلاتها على الهواء مباشرة، وأن ينكّسوا رؤوسهم، مع الخطبة؛ لإظهار ورعهم وتقاهم، كي تخلع عليهم شعوبهم لقب "الرئيس المؤمن"، تمامًا كما فعل أنور السادات، وقلنا لا بأس، هي محض "صلاة سياسية"، على أي حال.
وقبلنا على مضض أن يخدعنا الزعماء بصومهم، وموائد إفطارهم التي يدعون إليها وجهاء البلد، لإظهار أن الصوم يصلح أن يكون، أيضًا، علاقة عامة بين الزعيم وشعبه، فعذرناهم، وقلنا لا بأس، هو "صوم سياسي" على أي حال.
قبلنا ذلك كله على مضض، وقبلنا "الحج السياسي"، أيضًا، وقلنا يحق لزعمائنا ما لا يحق لغيرهم، بدليل أن هؤلاء الزعماء كانوا يحاربون أي جماعةٍ دينيةٍ معارضةٍ، تسعى إلى الوصول إلى السلطة، أو تدخل في برامج عملها أي شأن سياسي، وكان أقل اتهام يوجّه لها أنها من جماعة "الإسلام السياسي"، أما هم فمصرّحٌ لهم أن يمارسوا هذا "الإسلام السياسي" في توطيد عروشهم وتأبيد سلطتهم.
لكن حين تصل "الصلاة السياسية" إلى المسجد الأقصى، فهذا ما لا نسمح به أبدًا.. أقول ذلك، بعد أن ارتفعت وتيرة زيارات المسؤولين العرب إلى القدس المحتلة، بذريعة "أداء الصلاة" في رحاب ثالث الحرمين الشريفين، وفي ذهنهم أن هذه الصلوات تشكل "فتحًا" إسلاميًا للمدينة، لا يقل شأنًا عن زيارة عمر بن الخطاب المدينة فاتحًا.
من السخف أن يستهبلنا مسؤولونا إلى هذا الحد، لأننا نعلم، جيدًا، أن ما يفعلونه في المسجد هو "صلاة تطبيعية" مع عدو لا يزال جاثمًا على سائر دور العبادة في القدس، وبأنهم قبل الوصول إلى المدينة، كانوا قد مهدوا لهذه الزيارة مع الصهاينة، ليلعبوا دور "حصان تل أبيب" الخشبي، في اختراق قلعة الرفض العربي للتطبيع مع إسرائيل، مستغلين ما تمثله الصلاة في المسجد الأقصى من شغفٍ دينيٍّ عميق في وجدان الشعوب المسلمة.
تُرى، من يقنع هؤلاء المحشورين في أحصنة تل أبيب أن صلاة مثل التي يفعلون هي أشبه ما تكون بـ"صلاة الهزيمة الأخيرة"، التي تشبه ركعتي المحكومين بالإعدام قبل اعتلاء منصة الشنق، مع فرق أن شعوبهم هي التي تصعد المنصة، وترى في هذه الصلاة ذروة الإذلال أمام عدو يتعمد الوقوف أمام جموع المصلين في القدس، وكأنه يقول: "هذه الصلوات لي.. فاركعوا واسجدوا لربكم الأعلى، وأنا من يقرّر مواعيد صلاتكم، وأنا من بيده مفاتيح بوابات الأقصى كلها، أغلقها متى أشاء، وأفتحها متى أشاء، ولن تصلوا إلا بإذني، وتحت حرابي فقط".
لم تعد الشعوب المسلمة تخدعها مثل هذه الطقوس، وفي ذهنها ما كان يردّده الراحل أبو عمار، الذي كان يتعهد لشعبه باستمرار أن "يصلي في القدس".. وللإنصاف، فقد برّ الرجل بوعده وصلى في الأقصى، لكن عبر بوابة ثامنة هي بوابة "أوسلو"، فدفع الثمن فادحًا بعد ذلك، حين كانت صلاته الأخيرة محاصرًا في "المقاطعة". وقبله بسنوات، كان الرئيس المصري أنور السادات، الذي يُحسب له فضل قيادة ركب التفريط بفلسطين كلها، يصلي من باب آخر، هو باب اتفاقية كامب ديفيد التي أوصلته في ما بعد إلى ميدان الاغتيال على يد شعبه الذي يرفض التطبيع مع العدو الصهيوني.
متى، إذن، يقتنع هؤلاء "الخاشعون" من مسؤولينا بأن الشعوب العربية لم تعد تُخدع بهذه المسرحيات المستفزّة، فإن شاءوا الصلاة فليصلوا وحدهم من دون هذا الضجيج الإعلامي، الذي يصرّون على إثارته، وإن شاءوا التطبيع فليطبّعوا وحدهم، من دون التحدث باسم الشعوب العربية التي لا تعرف إلا بابًا واحدًا للقدس هو "باب النصر".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.