من دون العودة إلى الوثائق والأبحاث والدراسات التي قامت ببعضها جهات دولية، من بينها مركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (هابيتات) واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) التابعين للأمم المتحدة، ومنظمة المدن العربية والمعهد العربي لإنماء المدن والباحثون الأكاديميون العرب، حول آفاق التحضّر في المنطقة العربية، وما تم نشره من كتابات وأوراق عمل ونقاشات في مؤتمرات إسطنبول والقاهرة وكوبنهاغن وغيرها، يمكن القول إن موضوع السكان وتحضّرهم واجتماعهم كان مدار بحث علمي رصين ومسؤول على امتداد عقود.
كان واضحاً في معظم هذه الأبحاث والدراسات أن المنطقة العربية تعيش انفجاراً سكانياً ستكون له تبعاته على الصعد المجتمعية. بالطبع لم يتكهّن أحد بمضاعفاته على صعيد السلطات واستمراريتها وتكوّنها وأدائها وقدراتها على ابتداع الحلول، لأنه لو تحقق ذلك لكان بالإمكان الجزم بأن المنطقة، وفي ظل انسداد الأفق السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ستعيش الانفجار المدمر. لم تصل الأمور لدى الباحثين إلى هذا الحد. لكن لدى تجميع عناصر المواد القابلة للاشتعال، بعضها مع البعض الآخر، يمكن إدراك أن الأوضاع لن تحافظ على صمت القبور وسويتها السلمية التي سارت عليها منذ الاستقلالات. ولعلّ هذا ما طمأن السلطات الممسكة بزمام الأمور أنها باقية في موقعها المكين من دون أن تطاولها يد التغيير.
المهم أن المنطقة العربية لم تدخل في ما نعيشه بدون نُذر كافية. كانت النُذر موجودة لمن يقرأ، ولأن أصحاب القرار كما عُرف عنهم لا يقرؤون ولا يستمعون إلى من يقرأ أو يبحث، فقد تم ضرب عرض الحائط بالغيوم التي كانت تتجمع في سماء المنطقة الصافية. وهكذا تم استهلاك المؤتمرات والندوات والكتابات ووضعت جميعاً في الأدراج أو على الرفوف، ظناً أن لا ساعة حساب آتية ستدق معلنةً نهاية الشوط وبداية آخر. وهكذا أطلت علينا الأحداث وهي تحمل ما تحمله من عنف مضاعف.
يركز المحللون على الجانب السياسي للحرائق ويغفلون ما سواه من عناصر ساهمت في زيادة اللهيب ومضاعفاته. يتحدثون ويكتبون وكأن عاملاً وحيداً متفرداً من شأنه أن يفعل كل هذا الفعل، وهو المستحيل، إذ لو كان العامل المقرر مفرداً لأمكن التغلب عليه أو حصره بالأقل في نطاق ضيق وإيجاد الحل. إلا أن الأمور أعقد من ذلك بالتأكيد، وهنا تدخل لعنة الديموغرافيا على دواوين هؤلاء الحكام لتحيل قصورهم ومحيطهم ميادين حرائق لا تخبو. يتم اللجوء إلى ترسانات الحروب وتُستنفر القوى المحلية والإقليمية والدولية الحليفة، والحصيلة ليست سوى زيادة تفاعل العناصر واضطرامها. وبين ألسنة اللهيب يكتوي الناس والحجارة بنار تتلظى إلى أمدٍ غير معلوم من أطرافه الفاعلين حتى.
*أستاذ جامعي