صندوق بريد تفتحه الجزائر كلّ يوم

09 نوفمبر 2014
مقهى في الجزائر العاصمة (1899)
+ الخط -

ذهبتُ إلى الجزائر بعد سنةٍ كاملة على هامش حياةٍ ألمانيّةٍ، لا أنا فيها ولا هي فيّ. ورغم أن السابقين من الأصدقاء أصرّوا على أنّني ذاهبٌ إلى فضاء فرنسيّ لئلا أفاجأ هناك، سقطت كل تلك الإرشادات والتوجيهات التي قدّموها فور وصولي، إذ أن الجزائريين كانوا يبادرون إلى الحديث بالفصحى، لأجل تجاوز مطبّات ووعورة اللهجة. وكم كانت فرحتي تتضاعف، فبذلك كانوا يُسدون خدمةً لا تُضاهى لغريبٍ يستعيد، معهم وفيهم، لسانه.. ووجهه.

اللغة العربيّة هناك ذات ملمس خاصّ، قلما تجده في مكانٍ آخر. حتّى لغة شاخصات الطُرق ستقدّم اختلافها البلاغيّ. فحيث في كلّ مكان تقول لك الشاخصات "احذر منعطف"، ستختار الشاخصات الجزائرية اسم الفعل، لتعلن "حذارِ منعطف".

كذلك ستشير اللوحات الصغيرة بصراحةٍ، في المطار والفندق والمطاعم والشوارع، لتسمّي دورات المياه باسمها الصريح: "مرحاض". ناهيك عن القاموس الشعبي الذي يبدو، في كثيرٍ من الأحيان، وكأنه يقترح تعريفاتٍ لمفرداتٍ كثيرة، فالمُخبر، على سبيل المثال، يسمّى باسمٍ فادحٍ: "قوّاد الشّرطة".

لغةٌ قاسية تريد أن تعلن هويتها بكلّ ما أوتيت من الفجاجة، لتعلن القطيعة مع الاستعمار وزمنه. ربما يقول قائل إنها من بقايا عملية التعريب التي عرفتها البلاد بعد الاستقلال. الاستعمار الفرنسي مارس، إضافة إلى نهبه وجرائمه، مجازر أخرى بحق الأسماء. فهو نهب حتى أسماء العائلات الجزائرية، كي يتسنى له تفكيك الروابط القبلية، وبالتالي السيطرة على الأرض عبر منع توارثها. إضافة إلى العمل على إهانة الشخصية الجزائرية.

ومعروفةٌ للقاصي والداني الحملة التي قام الفرنسيون فيها بإعطاء أسماء سخيفة للناس، وحين قاموا بالعملية كانوا كلما وجدوا شخصاً سموه باسم ما يفعله؛ شخص كان يرى الماعز صار اسمه "بومعزة"، ومثله جاءت أسماء "بو ذيل" و"بو منجل" و"حمار". حتى أن الإخوة في الأسرة الواحدة حازوا اسمين مختلفين للقبهما العائلي.

من صراع اللغة الضروس، والذي لا يبدو أنه سينتهي قريباً، ستجد الوسط الثقافي مقسّماً إلى مُعرَّبين ومُفرنسين. بين من يكتبون بالعربية ومن يكتبون بالفرنسية. وخلف التقسيم ثمة صراع أيديولوجي لا يهدأ، لكنّ صعود اسم كامل داود وتصدّره القائمة القصيرة لجائزة "غونكور" (نالتها الفرنسية ليدي سالفار)، عن روايته الأولى "ميرسو.. تحقيق مضاد" سيبدو نوعاً من التصالح، لا سيما أن داود، المقيم في الجزائر والباقي فيها، لا يرى فرنسيته إلا أداةً لا أكثر.

في أروقة معرض الكتاب تلتقي بوجوه الجزائر الأدبية، من مختلف الأجيال؛ ها هو الحبيب السائح ينتظر صدور روايته "كولونيل الزبربر" التي يعيد فيها قراءة تاريخ الثورة الجزائرية؛ وها هو الزميل عبد الرزاق بوكبة يوقّع تجربته الزجلية في أحد الأجنحة، سعيداً باشتراكه مع الشاعر المغربي عادل لطفي في كتابهما "الثلجنار"، وهو الكتاب الجزائري المغربي المشترك الأول. شاعران يحاولان مدّ جسور ثقافية، سبق وأن هدمتها السياسة بين البلدين.

تعدّدت الندوات على هامش المعرض، بين "الصحافة والأدب" و"الأدب والسينما" و"النشر المناضل". لكنّ الكتاب بقي هو المناسبة، وبقي الإقبال الشعبي كبيراً ولافتاً في حركة لا تصدّق. تسأل عن السبب فيأتيك الجواب إنه الموسم الوحيد للكتاب في البلاد كلها. ذلك هو السرّ إذاً. ليس لدى الجزائريين فرصة أخرى، ولهذا أيضاً يحب الناشرون العرب هذا المعرض بالذات. فرصة وحيدة، لكنها كافية لعودتهم إلى ديارهم وقد تخلّصوا من بضاعتهم.

القراء الجزائريون خلقوا طقسهم الاحتفالي. يأتون من كل المدن، ينزلون في أو عند أصدقائهم في العاصمة، ليأخذوا مؤونة السنة. القانون الجائر تحوّل لسببٍ آخر للحياة.

في الشارع الجزائري ثمة نوع من الاحتقان. لا تعرف ما هو، لكنّ الناس ليسوا تماماً بخير. معدلات البطالة عالية، والأحاديث تدور حول فساد يعيش عصره الذهبي. الثورة التي جلبت التحرير والكرامة حوّلت بعض رجالاتها إلى نافذين يديرون مصالح خاصة، لكنّ درس "العشرية السوداء"، والتهاب المحيط العربي، خصوصاً في الجوارين التونسي والليبي، يجعل أبناء الجزائر يعدّون للعشرة قبل التفكير في الحراك.

الجزائر العاصمة تنام باكراً، معرض الكتاب يغلق أجنحته باكراً. ثمة مخلّفات ثقيلة من زمن "العشرية السوداء". بعض أشكالها كأنما أصبحت من قبيل العادة.

للشارع الجزائري مذاقه الخاص. وفيه يمكنك التقاط بعض ملامح شخصية الفرد هناك. تسمع أصوات اناس يتصايحون فتظنها مشاجرة، لتفاجأ بأنها الطريقة المحلية في الحديث، وتلك الجلبة التي تسمعها ليست سوى تفاعل حار مع نكتة.

ثمة ما يجعلك تشعر أن شبح هواري بومدين ما يزال يجوب الشوارع. كلما صادفتُ شخصاً، بائعاً أو سائق تاكسي، وعرف أنني فلسطيني، صار هو وردد كلمته الشهيرة "مع فلسطين ظالمة أو مظلومة".

بومدين فكرٌ أكثر منه شخص. تراه في تفكير الناس في محيطهم العربي والإسلامي. وفعلياً كان الرجل من بناة الجزائر الحديثة، فعدا عن إيمانه العميق بأن النهضة لا تكون إلا بإنتاج ذاتي؛ عمل بالتوازي مع ذلك على ربط الجزائر بفلسطين. بسببه ألقى ياسر عرفات خطابه الشهير في الأمم المتحدة. وبرعايته اشترك الجزائريون بقوّة في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. ناهيك عن إعلان دولة فلسطين الذي مهّد له قبل أن يغادر، وثمة من يعتبر أن تفجير "العشرية السوداء" ما هو إلا عقاب للجزائر على ذلك. شبح بومدين هناك، ذلك أن الألسنة والقلوب لا تكف عن إطلاقه.

الشاي بالليمون أو النعناع علامة خاصة. باعته في كل مكان في مركز العاصمة. يمكنك أن تجده مع قطعة حلويات "بسبوسة"، لتنال طاقةً لا يمكن أن تقدّمها إلا هذه الشوارع.

في "شارع العربي بن المهيدي"، وسط البلد، تقول العمارة الفرنسية التي تسم المكان إن المحتل لم يكن يفكّر بالمغادرة إطلاقاً، ولهذا بالذات كان لا بدّ من مليون ونصف شهيد.

اسم العربي بن المهيدي علامة خاصة في هذا الشارع، فالشهيد الذي كان أحد الستة المؤسسين لـ"جبهة التحرير الوطنية"، وقع في أسر الفرنسيين ومات تحت التعذيب.

بن المهيدي الذي كانت آخر صوره تحمل ابتسامةً ساخرةً، في طريقه إلى الإعدام، لم يقدّم درساً للاحتلال فحسب، بل لعل ابتسامته تلك ستصبح رسالة حبّ، وسيصبح الشارع الذي يحمل اسمه صندوق بريد تفتحه الجزائر كل يوم.

دلالات
المساهمون