صورة أم كلثوم
ذات ليلة أرقٍ لا تنفع معها القراءة، أو ممارسة أي عمل نافع، جلست أمام الشاشة الصغيرة، أقلّب أقنيتها، ولا أقع إلا على ما يزيد على أرقي، مللاً أو اكتئابا. إلى أن ظهرت لعينيّ صورة أم كلثوم، بالأسود والأبيض، وهي واقفة وقفتها الشهيرة في إحدى حفلاتها، أمام فرقتها الموسيقية، بشعرها الملموم إلى الوراء، والمنديل في يدها. كانت تتحرك باقتضاب، كأنها لا تتحرك، حتى خلتُ أنّ ما أراه أمامي صورة وسطية ما بين الصورة الفوتوغرافية وصورة التلفاز. أصابني الذهول، وشعرت أني دخلت فجأة عالماً موازياً، عالماً خيالياً مصنوعاً من الفراء والقطن الناعم، يكتم من حولك كل الضجيج، ويغلّف بالطراوة كل ما فيك من رضوض.
كان الجمهور نساءً ورجالاً، ونساءً مع نساء، ورجالاً مع رجال، وقد ظهروا في أفضل ما لديهم من أناقة وحليّ، يتهامسون ويتسامرون بوجوه ترتسم عليها الغبطة، يصغون ويُطربون، ولا يتذمّرون من فوضى خفيفة في المسرح، وحركة دخول وخروج، تجري بطبيعية، وتذكّرنا أننا في مصر.
كانت أم كلثوم ترتدي فستانا قماشته من الغيبور الثمين، يصل إلى الكاحلين، فشلتُ في أن أحزر لونه، لكني قدّرت أنه لون كتوم، وإن لم يكن داكناً، غير صارخ، يشبه الصرامة والحشمة اللتين تريدهما السيدة لصورتها. كانت تغني "انت فين والحب فين"، وكانت الكاميرا، على غير العادة، أكثر اقترابا منها. أمعنتُ النظر. لم تكن أم كلثوم بمقاييس الأمس، واليوم، امرأة جميلة. لم تكن خفيفة أو محبّبة الحضور، قلّما تبتسم، أو تستجدي موافقة جمهورها، وهي لا تستميله، بقدر ما تسيطر عليه وتتلاعب به. ثم خطر لي، وأنا أنظر إلى المشهد مجتمعاً، ماذا لو أن أم كلثوم ولدت اليوم؟ ماذا عن طول أغانيها حينئذ، مقابل أغان لا تعدو اليوم 5 أو 10 دقائق في أحسن الأحوال؟ ماذا عن فرقتها الموسيقية وأشكال أعضائها المحنّطين، وبالتحديد عازف العود من ورائها، الذي يتكرر من حفلة إلى أخرى، بزجاجتي نظارتيه السميكتين، رأسه الأصلع، وجسده النحيل المتهاوي؟ لا فرقة راقصة، ولا أضواء، ولا تأثيرات مشهدية، ولا استعراضات جانبية أو إضافية. وهي، بوقوفها وجمودها في المكان عينه زهاء ساعتين، بشكلها الكلاسيكي المحتشم، وجسدها الأشبه بجسد الأمهات والعمّات، لا بجسد المغنيات، نجمات اليوم، ممن يقتصر فنهن على التسابق على إظهار مفاتنهن، أكثر مما يرمي إلى إظهار موهبتهن.
في البرامج الفنية العديدة التي تعمل على اكتشاف مغنية، أو مغني الغد، من أراب أيدول، إلى ستار أكاديمي، إلى أرابز غوت تالانت، إلى إكس فاكتور، يشرح لنا أعضاء لجان الحكم، مقوّمات النجومية من حسن مظهر، إلى جاذبية، إلى حسن أداء وحضور، ناهيك عن ضرورة وجود كوتش يعمل على تحويل صورة النجم، بحيث تتماشى مع ذوق الجمهور. فهل يمكن تخيّل كوكب الشرق وهي تمرّ بكل هذه الامتحانات؟
أذكر ابن خالة لي، توفي منذ عقدين، وكان أكبر مني بجيلين. أذكر أنه، مساء كل خميس، كان يلغي كل ما لديه، لينعزل في غرفته مستمعاً لحفلة "الست" كما كان يسميها، على الراديو. كنا، صغاراً، نسخر منه، ونقول إنه واقع في الغرام، ثم ما نلبث أن نتراجع، إذ نجد أنهم كانوا، كلهم، أجيالاً برمتها، يفعلون الشيء نفسه كل أسبوع. كان ذلك عصراً يفسح وقتاً للحب، ذاك الذي يلوّع ويحرق، ويجعلك تعاني الليالي بطولها، فلا يكون لك رفيق غيرها، هي التي تشكو، وتتولّه، وترسل الآهات، وتعيد.
لقد نجت السيدة أم كلثوم، وسواها من العمالقة، أمثال سعاد محمد وفايزة أحمد والسيدة فيروز، من عصر التلفزيون، تاركين لنا إرثاً بالأسود والأبيض، خالصاً، صافياً، نقياً، بغنى عن كل متطلبات الصورة وما أنتجته عربياً من قلة ذائقة وضوضاء.