لا يمكنني أن أدعّـي الإحاطة الكاملة بعالم المفكر والإناسي يوسف الصديق الذي يحاول الحوار المنشور معه في هذا العدد الغوص عليه.
وقد يكون ما قاله لسائله بمثابة تمهيد لهذا العالم ولقيم صافية يبنيها لنفسه ولنا جميعاً، وبمنزلة مدخل للتجوهر في ما ينطوي عليه من دلالات ثرّة فكرية وثقافية وربما اجتماعية أيضاً، التي جاءت أعماله الشديدة الخصوصية كإشارة إنباءٍ مدوّ بها.
ولا بدّ من القول إنه ليس في الوسع التغاضي عنها، بحال من الأحوال، كونها دلالات غير منحصرة من حيث ماهيتها في حيّزنا الثقافيّ المخصوص الذي قلّما يتمّ تشريحه في نطاق حقول خصبة من التشخيص والنقد والاستحصال.
مهما تكن هذه الدلالات، أرى وجوب البدء بحقيقة أن الصديق يحيل إلى "صورة المثقف" المنشودة في الأذهان، تلك الصورة التي باتت تعتريها شوائب كثيرة في الآونة الأخيرة.
واختصاراً للمواصفات، فإني أقصد على وجه التحديد، الصورة التي يمكن استمدادها من تلك التي أجاد إدوارد سعيد في وصفها للمثقف عموماً، وأساساً في قوله إنّ هدف المثقف المتوخّى هو "تشييد بنية ثقافية كاملة"، أولاً ودائماً.
في كتابه "صورة المثقف"، ركز سعيد على أن المثقف وُهب ملكة عقلية لتوضيح رسالة، أو وجهة نظر، أو موقف، أو فلسفة، أو رأي، أو تجسيد أي من هذه، أو تبيانها بألفاظ واضحة، لجمهور ما وأيضاً نيابة عنه. ولهذا الدور محاذيره ولا يمكن القيام به من دون شعور المرء بأنه إنسان مهمته أن يطرح علناً للمناقشة أسئلة محرجة، ويجابه المعتقد التقليدي والتصلّب العقائدي بدلاً من أن ينتجهما.
اقرأ أيضاً: مثقف أخلاقيّ
وكنّا ـ لكن في مقام آخر ـ قد أشرنا إلى أن عزمي بشارة رأى أن أحد أهم معارك المثقف هي على جبهة النهضة، لافتاً في الآن ذاته إلى أن معركة النهضة ليست معركة حرية تعبير، وإنما معركة دفاع عن العقل ضدّ الخرافة، عن العلم ضدّ الجهل، عن التجريبية ضدّ الغيبية، عن النقد العلمي ضدّ العقائدية.
وشدّد على أن المعركة برأيه هي الدفاع عن صحّة الرأي الصحيح لا عن "حقّ صاحب الرأي في التعبير عن ذاته، ولو كانوا لا يتفقون معه".
ترتبط البنية الثقافية التي يشيدها الصديق بنصّ هذا المفكّر وبهاجسه الوجوديّ.
لكن ما هي هذه البنية الثقافية التي يتحدّى بها قارئ أعماله أو ناقدها على حدّ سواء؟
تنهض هذه البنية الثقافية على عديد العناصر، في مقدمها عنصر المعرفة، إمكانها ومصادرها وطبيعتها.
ولعلّ ما يسترعي الانتباه أكثر شيء هو إسهامه الخاصّ في شأن إمكان المعرفة، ذلك الإسهام الذي يراوح ما بين القول بذلك الإمكان والشكّ فيه.
ولئن كان توكيد إمكان المعرفة، عادة ما يتبدّى في أعماله عن طريق التجربة لا بمنأى عن إعمال العقل، فإنّ عنصر الشكّ فيه ينطلق من اتخاذه منهجاً للوصول إلى المعرفة من طرف المفكر. وبذا يدرأ نصّه عن ذاته، بذاته، وجع الارتطام بذلك الشكّ المذهبيّ الذي يشكل الوسيلة والغاية في الآن عينه، ترجيحاً لسرعة اعتماده كوسيلة لا أكثر.
ولا نستطيع أن نستفيض أكثر فأكثر من دون التنويه بأن هناك جانباً مؤسياً، بأقل تقدير، في السيرورة التي عايشها هذا المفكر ويعايشها الآن.
ونعثر على هذا الجانب في موافقة الصديق على رأي عبّر عنه السائل بعبارة "لكنك (وكاد أن يقول الآن بعد أن حدث كل ما حدث) في العراء، ولا ظهر لك سوى كلمتك"، فأجابه قائلاً: "وهذا ليس هيّناً...عشت بسيطاً وسأظل، لم أتجه لمؤسسات الدولة ولا أي جهات حكومية، أتقاضى معاشي بعيداً من تحالفات مع من يغش أو يخفي أطماعاً شخصية أو يبحث عن زعامة". وأردف بنبرة تثير الأسى: "لم أقل كل ما لديّ، ما زال لديّ الكثير لكني أنتظر لحظة نكون فيها أكثر تسامحاً.. باختصار أقول لك إني أضبط نفسي حفاظاً على وجودي".
بطبيعة الحال ليس في هذا الكلام ما يغيّر من جوهر "صورة المثقف" كما ينبغي أن ترتسم وفقاً للمقبوسات السالفة. لكن في ذات الوقت فإن اعترافاته هذه تدل على تغيير في تركيبة المجتمع العربي.
فهل هو للأسوأ؟
وهل مجرّد قوله إنه ينتظر لحظة "نكون فيها أكثر تسامحاً"، يعني أن أي مقارنة بين "خسارة" المثقف السائر نحو إطار صورته المنشودة في أزمان ماضية، وبين "خسارته" الناجمة عن مسار متجه نحو نفس الإطار في الزمان الحالي، سترجح كفة "الخسارة" الثانية ربما بمستوى أشدّ وأدهى؟
وقد يكون ما قاله لسائله بمثابة تمهيد لهذا العالم ولقيم صافية يبنيها لنفسه ولنا جميعاً، وبمنزلة مدخل للتجوهر في ما ينطوي عليه من دلالات ثرّة فكرية وثقافية وربما اجتماعية أيضاً، التي جاءت أعماله الشديدة الخصوصية كإشارة إنباءٍ مدوّ بها.
ولا بدّ من القول إنه ليس في الوسع التغاضي عنها، بحال من الأحوال، كونها دلالات غير منحصرة من حيث ماهيتها في حيّزنا الثقافيّ المخصوص الذي قلّما يتمّ تشريحه في نطاق حقول خصبة من التشخيص والنقد والاستحصال.
مهما تكن هذه الدلالات، أرى وجوب البدء بحقيقة أن الصديق يحيل إلى "صورة المثقف" المنشودة في الأذهان، تلك الصورة التي باتت تعتريها شوائب كثيرة في الآونة الأخيرة.
واختصاراً للمواصفات، فإني أقصد على وجه التحديد، الصورة التي يمكن استمدادها من تلك التي أجاد إدوارد سعيد في وصفها للمثقف عموماً، وأساساً في قوله إنّ هدف المثقف المتوخّى هو "تشييد بنية ثقافية كاملة"، أولاً ودائماً.
في كتابه "صورة المثقف"، ركز سعيد على أن المثقف وُهب ملكة عقلية لتوضيح رسالة، أو وجهة نظر، أو موقف، أو فلسفة، أو رأي، أو تجسيد أي من هذه، أو تبيانها بألفاظ واضحة، لجمهور ما وأيضاً نيابة عنه. ولهذا الدور محاذيره ولا يمكن القيام به من دون شعور المرء بأنه إنسان مهمته أن يطرح علناً للمناقشة أسئلة محرجة، ويجابه المعتقد التقليدي والتصلّب العقائدي بدلاً من أن ينتجهما.
اقرأ أيضاً: مثقف أخلاقيّ
وكنّا ـ لكن في مقام آخر ـ قد أشرنا إلى أن عزمي بشارة رأى أن أحد أهم معارك المثقف هي على جبهة النهضة، لافتاً في الآن ذاته إلى أن معركة النهضة ليست معركة حرية تعبير، وإنما معركة دفاع عن العقل ضدّ الخرافة، عن العلم ضدّ الجهل، عن التجريبية ضدّ الغيبية، عن النقد العلمي ضدّ العقائدية.
وشدّد على أن المعركة برأيه هي الدفاع عن صحّة الرأي الصحيح لا عن "حقّ صاحب الرأي في التعبير عن ذاته، ولو كانوا لا يتفقون معه".
ترتبط البنية الثقافية التي يشيدها الصديق بنصّ هذا المفكّر وبهاجسه الوجوديّ.
لكن ما هي هذه البنية الثقافية التي يتحدّى بها قارئ أعماله أو ناقدها على حدّ سواء؟
تنهض هذه البنية الثقافية على عديد العناصر، في مقدمها عنصر المعرفة، إمكانها ومصادرها وطبيعتها.
ولعلّ ما يسترعي الانتباه أكثر شيء هو إسهامه الخاصّ في شأن إمكان المعرفة، ذلك الإسهام الذي يراوح ما بين القول بذلك الإمكان والشكّ فيه.
ولئن كان توكيد إمكان المعرفة، عادة ما يتبدّى في أعماله عن طريق التجربة لا بمنأى عن إعمال العقل، فإنّ عنصر الشكّ فيه ينطلق من اتخاذه منهجاً للوصول إلى المعرفة من طرف المفكر. وبذا يدرأ نصّه عن ذاته، بذاته، وجع الارتطام بذلك الشكّ المذهبيّ الذي يشكل الوسيلة والغاية في الآن عينه، ترجيحاً لسرعة اعتماده كوسيلة لا أكثر.
ولا نستطيع أن نستفيض أكثر فأكثر من دون التنويه بأن هناك جانباً مؤسياً، بأقل تقدير، في السيرورة التي عايشها هذا المفكر ويعايشها الآن.
ونعثر على هذا الجانب في موافقة الصديق على رأي عبّر عنه السائل بعبارة "لكنك (وكاد أن يقول الآن بعد أن حدث كل ما حدث) في العراء، ولا ظهر لك سوى كلمتك"، فأجابه قائلاً: "وهذا ليس هيّناً...عشت بسيطاً وسأظل، لم أتجه لمؤسسات الدولة ولا أي جهات حكومية، أتقاضى معاشي بعيداً من تحالفات مع من يغش أو يخفي أطماعاً شخصية أو يبحث عن زعامة". وأردف بنبرة تثير الأسى: "لم أقل كل ما لديّ، ما زال لديّ الكثير لكني أنتظر لحظة نكون فيها أكثر تسامحاً.. باختصار أقول لك إني أضبط نفسي حفاظاً على وجودي".
بطبيعة الحال ليس في هذا الكلام ما يغيّر من جوهر "صورة المثقف" كما ينبغي أن ترتسم وفقاً للمقبوسات السالفة. لكن في ذات الوقت فإن اعترافاته هذه تدل على تغيير في تركيبة المجتمع العربي.
فهل هو للأسوأ؟
وهل مجرّد قوله إنه ينتظر لحظة "نكون فيها أكثر تسامحاً"، يعني أن أي مقارنة بين "خسارة" المثقف السائر نحو إطار صورته المنشودة في أزمان ماضية، وبين "خسارته" الناجمة عن مسار متجه نحو نفس الإطار في الزمان الحالي، سترجح كفة "الخسارة" الثانية ربما بمستوى أشدّ وأدهى؟