ضباط الدراما: محاولات تجميل واقع قبيح

12 يوليو 2017
+ الخط -

مهذبون، أذكياء، واسعو الحيلة، عاطفيون
هذه هي الصفات التي يظهر بها ضباط الشرطة في الدراما هذا العام، أكثر من 30 مسلسلا تلفزيونيا، عشرة منها تقريبا يستحوذون على نسبة كبيرة من المشاهدات اليومية حتى صاروا مادة للحديث اليومي. يكاد لا يخلو عمل درامي هذا العام من العنصر الشرطي كركن أساسي في بناء الحكاية، لكن أي رجل شرطة يظهر في الدراما وكيف؟

ضباط الدراما على أعلى درجة من المثالية والرهافة والقدرة على التحليل والاستنتاج، في أقسام شرطة نظيفة ومتطورة، وسجون آدمية متسعة تحوز الأشرار الذين يريدون تكدير السلم الوطني، ولا حل أمام الضباط إلا حبسهم. أما الفاسد في جهاز الداخلية فهو إما "حالة فردية" أو أمين شرطة.


أكثر من مجرد دراما
بحسب الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو فإن المسلسلات التلفزيونية ليست مجرد مواد تبتغي التسلية والتثقيف فقط، بل فقد أصبحت الأدوات والوسائل الأكثر مساهمة وفاعلية في الضبط والتحكم الاجتماعي في المجتمعات الحديثة. وتبعا للمفهوم الذي يقدمه بورديو فوسائل الإعلام أداة من أدوات "العنف الرمزي" الذي تستغله الطبقات الاجتماعية السائدة والمهيمنة، بحيث تقوم بتسييرها خدمة لمصالحها ومكتسباتها.

وبحكم تأثيره الواسع يعتبر بورديو أن التلفزيون بآلياته المعقدة لا يشكل خطرا على مستوى الإنتاج الثقافي، من فن وأدب، علوم، فلسفة، قانون فحسب بل بات يهدد أيضا الحياة السياسية والديمقراطية، والمشكلة الضاغطة على التلفزيون ومعه جزء كبير من الصحافة أنها وسائل مدفوعة بمنطق الإلهاء وراء مزيد من الإقبال الجماهيري.

كما يعتبر بورديو أن الرقابة الأكثر تأثيرا في المادة التلفزيونية هي الرقابة الخفية أو الاقتصادية، ما يجعل المادة المعروضة محكومة بسلطة الإكراه، وعلى ذلك فالمعلنون والمنتجون يضبطون المعروض بما يوافق مصالحهم المباشرة.


رأس المال الرمزي على الشاشة
لا يمكن فهم هذه الظاهرة المتعلقة بضباط الداخلية في الدراما هذا العام، خارج السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي تعيشه مصر هذه الأيام، مع عودة "آمنة" لرؤوس الأموال القريبة من النظام إلى موقعها من السلطة، غير أنه هذه المرة لم تعد علاقة السلطة بالمنتج الدرامي رقابة ووساطة وتسهيلات، بل تجاوز الأمر إلى الاشتراك في إنتاج الكثير من هذه الأعمال، لا من بابها المعلن والشرعي "مدينة الإنتاج الإعلامي أو اتحاد الإذاعة والتلفزيون" أي الشركات التابعة ملكيتها للدولة. تماما كما لم تعد للقنوات الحكومية أي نسب مشاهدة تذكر أو تأثير على قطاعات واسعة من مشاهدي التلفزيون.

فكما تحول الخطاب السياسي إلى الشاشات الخاصة البديلة للمنفذ الحكومي، صار إنتاج المسلسلات عن طريق رجال دولة دخلوا معترك الإنتاج الدرامي وصاروا جزءا أساسيا في اللعبة، على رأس هؤلاء "ياسر سليم" الذي يشارك هذا العام في إنتاج عدد كبير من المسلسلات في شراكته مع المنتج "تامر مرسي".


الدراما والواقع.. التاريخ غير الرسمي
يتجاوز تأثير المسلسلات التلفزيونية مجرد التسرية وتزجية الوقت، مثلها مثل كل الأعمال ذات القبول الجماهيري الواسع، دائما ما تحمل في مضمونها خطابا سياسيا وثقافيا موجها، وهذا هو ما قصده بورديو بحديثه عن "العنف الرمزي".

مجريات الحياة اليومية في السنوات الأربع الأخيرة تقول إن الداخلية تمر بواحدة من أكثر عصورها وحشية وبعدا عن المهنية، وتهافتا في التعامل مع المتغيرات السياسية مسلحين بخطاب عصاب وطني مملوء بالتخوين. القتل صار علنيا، والتصفية لم تعد أمرا خافيا.

لكن الدراما تحاول أن تقدم في أعمال تسمى "اجتماعية" صورة أكثر طوباوية وتزييفا، مع الزمن ستصمد هذه الأعمال كسردية غير رسمية لتاريخ هذه الحقبة، يتجاوز تأثيرها تأثير السرديات التاريخية الرسمية.

بالعودة إلى تاريخ "الصورة" في تقديم الضابط، فإن فيلم "حياة أو موت" مثلا بصورته الشهيرة "إلى أحمد إبراهيم القاطن بدير النحاس الدواء فيه سم قاتل" حيث حكمدار الداخلية يجند قوته لمنع دواء سوف يودي بحياة مواطن، صمد الفيلم وعاش في الوعي الجمعي أكثر من فداحات البوليس السياسي قبل ثورة يوليو 1952.

أما في الثمانينيات في فترة تسيد الواقعية الجديدة، قدم محمد خان في فيلمه "زوجة رجل مهم" وعاطف الطيب في "البريء" صورة مغايرة عن الأخرى المفرطة في نمطيتها، قدم الفيلمان صورة لرجال شرطة عنيفين، مملوئين بهواجس العظمة. هكذا يعيش الضابط الدرامي، أكثر من صورته الرسمية. وهو ما تعيه السلطة جيدا.

في سوق درامي خلا ممن يحمل خطابا مغايرا للرسمي الذي يروج له النظام، وفي مجال عام سياسي منغلق تماما بقبضة أمنية حديدية، ومع امتلاك السلطة وحدها رأس المال الرمزي والثقافي، هي الآن قادرة على تمرير الأفكار التي توافق خطابها السياسي، كان لزاما أن يكون ضابط الشرطة عنصرا أساسيا في سرديات الدراما هذا العام، ولذلك ليس من الغريب أن يستحوذ الضابط الوسيم الرقيق الذكي واسع الحيلة على النصيب الأكبر من المسلسلات، لعله يجمل واقعا بلغ من القبح مبلغا يقول إن كل شيء على حافة الانفجار.

المساهمون