ضرورة ألا نكون "كلنا خالد سعيد"
فور ظهور صورة الشاب السكندري المصري، خالد سعيد، مقتولاً وبوجه مهشم، على يد رجال الشرطة ظهيرة يوم 6 يونيو/حزيران 2010، انتشرت عدة صفحات إلكترونية على موقع "فيسبوك"، للمطالبة بحق خالد في الحياة الذي سلبته الشرطة المصرية. وفي 10 يونيو، أسس شاب مصري مغترب، سنعرف، لاحقاً، أنه وائل غنيم، صفحة بعنوان "كلنا خالد سعيد". كانت هويته مجهولة بشكل متعمد. وبمرور الوقت. ستحظى هذه الصفحة، دون غيرها، بانتشار واسع، ما يؤهلها لأن تكون صاحبة الدعوة الأولى للتظاهر في ذكرى عيد الشرطة المصرية 25 يناير 2011، وباقي الحكاية يبدو معروفاً.
لماذا حظيت "كلنا خالد سعيد" بكل هذه الشعبية دون غيرها من الصفحات؟ هذا موضوع يطول شرحه، فالأسباب عديدة، منها وظيفة وائل غنيم حينها مديراً للتسويق في شركة جوجل، فأعطته وظيفته بعض الخبرة في التعامل مع الجمهور على الإنترنت.
وقد ساهمت هوية مؤسس الصفحة المجهولة في ألا يكون عرضة لرصاص الانتقادات والمعارك الإلكترونية المعتادة. وساهمت طبيعة المحتوى الذي نشرته الصفحة في ذلك. ولاحقاً، بعد الثورة بأشهر، قابلت وائل غنيم وسألته عن محدداته لاختيار المحتوى المنشور على الصفحة ـ فقال "كنت أركز على أن يكون المحتوى ملائماً للمصري العادي الذي يحب أن يرى بلاده جميلة، والذي يحب الموسيقى التي تغني لمصر، والذي ينشر صور بلاده الجميلة على صفحته الخاصة".
وقد ركزت "كلنا خالد سعيد" على هذا الخطاب، ما منحها تلك المصداقية والقدرة على التأثير، وهو ما استمر إلى ما بعد سقوط حسني مبارك، وبقاء نظامه.
في هذه الأيام، وبعد ما جرى من أحداث وتطورات، تبدو مقولة "كلنا خالد سعيد" بحاجة إلى نقاش وتشكيك، فالجملة التي انطلقت منها أفكار ثورة الغضب تؤكد أننا "كلنا" نقف في مكان الضحية! خالد سعيد كان ولا يزال ضحية عنف الشرطة المصرية المنهجي، وهو ما أكده حكم قضائي أخير ونهائي بمعاقبة الجناة في قضيته بالسجن المشدد عشر سنوات لضابطين في الشرطة.
ما الفائدة، أن تنطلق الثورة وشعارها أننا كلنا الضحية. ما المطلوب من ملايين الضحايا؟ وما المنتظر منهم تحديداً؟
حتى وقت قريب، كان ما جرى ليلة 28 يناير 2011 لا يزال غامضاً، احترقت بنايات الشرطة، وانتهت المواجهات بين الشرطة و"الشعب" بانسحاب الأولى فجأة. ويتم تجاوز هذه الحكاية سريعاً. ولا أحد يفضل أن يتم توثيق الثورة من خلال معركة عنيفة بين أفراد الشعب ضد رجال الشرطة المصرية.
سيطرت مشاعر الضحية على الجماهير ربما، بحيث أخجلها الاعتراف بأنها انتقمت من جلادها. الجماهير التي فضلت أن تبدو "عادية" و"طيبة"، ووصفت، حينها، من وسائل الإعلام الحكومية بالـ "شباب الطاهر النقي"، و"الورد اللي فتح في جناين مصر"، كانت تجهل عن نفسها قدرتها على معاقبة الجلاد، فبدت الثورة مجرد صراخ ضحايا لا أكثر، فيما كان أفضل ربما أن تبدو وكأنها عقاب وانتقام من جلاد محترف.
الموعد الذي تحدد للتظاهر، على صفحة كلنا خالد سعيد، هو ظهيرة 25 يناير، وهو العيد الرسمي للشرطة في مصر. والمعتاد أن يخصص هذا اليوم لعرض إنجازات الشرطة، ويفتتح فيه وزير الداخلية مبانيَ أمنية قمعية جديدة. تكلف المليارات سنوياً.
ولعل بعضنا يذكر، خطاب وسائل الإعلام المصرية عن أن التظاهر يوم عيد الشرطة عيب ونوع من قلة الأدب والاحترام للمؤسسة الأمنية. هذا ملائم جداً لثورة رفعت شعار "كلنا الضحية"، هذه ثورة طيبة ومسالمة (وليست سلمية)، بحيث لا يزال قانون الأدب صالحاً للتحكم بها!
المعركة، التي كانت، والتي يبدو أنها لا تزال قائمة، معركة مباشرة مع مؤسسة الشرطة المصرية ووزارة الداخلية. هذا واقع محدد وملموس. خالد سعيد قتلته الشرطة، قبل أن يقتله "النظام"، حدود الاشتباك الأولى هي مع الشرطة مباشرة. وقد انتهت الجولة الأولى بانسحاب الشرطة. لكنها عادت لتضرب من جديد.
الثورة في حاجة لأن يتجاوز الثوار موقع الضحايا. الضحية غير قادرة على العقاب، على الانتقام، على جعل الجلاد يتألم، والجلاد الأمني المصري في حاجة لأن يشعر بالوجع، فمن دون ذلك، لا توجد معركة.
الجلاد الآن سعيد، ولعله خالد، كونه بعيداً عن مرمى النيران، لا أحد يذكره إلا في مجمل الحديث عن معركة واسعة مع النظام السياسي غير الشرعي. ربما العكس تماماً هو الصحيح. المعركة الصغيرة يجب أن تنتهي، أولاً. حق الشعب المصري لدى الشرطة يجب أن يعود، قبل أن نتفرغ للحديث عن حال السياسة وشرعية الحاكم.
الثورة مستمرة في "الطيبة"، والشرطة مستمرة في القتل. وهي، الآن، لا تحظى بالاهتمام الكافي. حتى صارت عبارات مثل "تطهير الداخلية"، و"محاكمة الضباط القتلة" مجرد أمنيات طيبة، لشباب لطيف، طاهر ونقي، يشبه الضحية جداً، حتى أنه يقتل مثلها، على يد الجلاد نفسه، من دون اعتراض.