كل شيء في روسيا يتمّ إعداده من أجل المعركة. معادلة جديدة تحاول السلطات تسويقها، مضحّية بموازنة الصحة والتعليم لمصلحة الصواريخ النووية وسواها من الأسلحة الفتاكة، التي لا تفيد في ردع المعارضين، المحتجين على التضخّم والغلاء والبطالة والتضييق الأمني.
فهل يُمكن لبلد أن يقاتل وينتصر بشعب مهزومٍ اقتصادياً ونفسياً؟ وهل حقاً هناك طابور خامس روسي، ينخر هيكل البلاد الاقتصادي ويجوّع أهلها، من أجل قلب نظام الحكم، أم أن الغرب يستعدّ لخوض جولة فاصلة مع روسيا "البوتينية"، بعد أن هزم الاتحاد السوفييتي بحرب أسعار النفط؟
ففي 2 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، تمّ تنظيم أكبر تظاهرة احتجاجية من نوعها للعاملين في حقل الصحة، تحت شعار "أوقفوا انهيار الطب في موسكو". مع العلم بأن عمليات التسريح في الكادر الطبي، بدأت في مؤسسات موسكو الصحية منذ نهاية العام الماضي. ووفقاً للجدول الزمني لإغلاق العيادات العامة ودور الولادة الحكومية في موسكو، سيتم تسريح موظفي 28 مؤسسة طبية، بما في ذلك 15 مستشفى، كما سيتم إخلاء المباني.
ومن غير المعلوم لمصلحة أي جهة أو أشخاص ستُخلى المباني، الواقع معظمها في مركز المدينة أو قريباً منه، أي في دائرة موسكو، الأغلى ثمناً. وقد تمّ بالفعل تسريح الموظفين في بعض المستشفيات الواردة في الجدول. إلا أن الخطة، وفقاً لموقع "توب.آر بي كا.رو"، تقتضي إغلاق المراكز الطبية والمستشفيات مع حلول شهر أبريل/نيسان المقبل.
وقد أورد الموقع تعليق نائب عمدة موسكو للشؤون الاجتماعية، ليونيد بيتشاتنيكوف، الذي أثار سخطاً كبيراً، وجاء فيه "لم نكن نريد نشر ذلك، لأنهم (أي الأطباء) بكوا بهدوء في مكاتبنا. ولكن طالما أن ذلك انتشر في الأوساط العامة، فسوف نبكي معاً".
وأضاف موقع "غوسليودي.رو" ما لا يطمئن السلطات، إذ وعد بأعمال احتجاج ينوي العاملون في قطاع الصحة تنظيمها في عموم روسيا، وهم عاقدون العزم على فعل ذلك في نهاية الشهر. ذلك أن تسريح الأطباء وإغلاق كثير من العيادات العامة والمستشفيات لن يقتصر على موسكو وحدها. ويعود ذلك إلى أن الموازنة الفيدرالية لعام 2015، تخفض مخصصات الصحة بمعدل 20 في المائة عن العام الحالي.
ومع أخذ معدلات التضخم بعين الاعتبار، فسيصل التخفيض فعلياً إلى أكثر من ذلك بكثير. ففي هذا العام بلغت المخصصات 12 مليار دولار، بينما ستقتصر على 9.3 مليار دولار في العام المقبل. علماً بأن سعر الدولار يتراوح اليوم بين 47 و50 روبلاً، ومن غير المعلوم إلى أي حدّ ممكن أن يتدهور الوضع.
وغالباً ما يتمّ استيراد الكثير من الأدوية والتجهيزات الطبية، مما سيعني ارتفاع أسعارها بدرجة كبيرة، بالتوازي مع تخفيض الميزانية. والأمر لا يقتصر على الطب، فكثير من عناصر الإنتاج في الصناعات الروسية المختلفة يستورد من الخارج.
وسبق للرئيس فلاديمير بوتين، أن حذّر من "الطابور الخامس"، في 18 مارس/ آذار الماضي، حين ألقى كلمة في قاعة الاحتفالات بالكرملين، أمام أعضاء مجلسي الدوما، بمناسبة طلب برلمان القرم الانضمام إلى روسيا الاتحادية.
قال حينها "من الواضح أننا سنصطدم بمعارضة من الخارج، ولكن يجب علينا أن نقرر لأنفسنا ما إذا كنا على استعداد للدفاع عن مصالحنا الوطنية بثبات، أم سنستمر بالتراجع عنها. بعض السياسيين الغربيين بدأوا بإخافتنا، ليس فقط من العقوبات، إنما ومن احتمال تفاقم المشاكل الداخلية. أودّ لو أعرف ما الذي يعنونه: أفعال طابور خامس ما، من نمط خونة الوطنية، أم أنهم يعتمدون على تطوّر الوضع الاجتماعي والاقتصادي في روسيا، وبالتالي إثارة سخط الناس؟".
ليس بوتين وحده، من يتحدث هكذا، فقد نشر زعيم "الحركة الأوراسية"، ألكسندر دوغين، مقالاً في صحيفة "فزغلاد" بعنوان "طابور سادس"، في 29 أبريل/نيسان الماضي. وجاء فيه "نحن أمام ظاهرة مزدوجة: من جهة طابور خامس علني، متمثل بمعارضة ليبرالية موالية للغرب ومناهضة لبوتين، ومن جهة أخرى طابور خامس متخفٍ من الأوليغارشيين والسياسيين والمسؤولين والمحللين السياسيين والخبراء والوجوه الاجتماعية ومالكي وسائل الإعلام، الذين وجدوا لأنفسهم إمكانية البقاء ضمن النظام السياسي مع بوتين ونهجه الوطني، على الرغم من أنهم ليسوا أقلّ أطلسية وجذرية من المتطرفين المناهضين لبوتين".
وأضاف دوغين، أنّ "هناك، بالنسبة لبوتين، أعداء مكشوفين مع الغرب، وآخرين بين أنصاره ورفاقه وزملائه، وهم خونة للحضارة الروسية ومخربون". ومن أجل توضيح الفوارق بين عنصري الطابور الخامس، اقترح دوغين إدخال مصطلح جديد، هو "الطابور السادس".
واعتبر أن "الطابور السادس، يتضمن أولئك الذين لا نستطيع بعد تصنيفهم وفق قاموسنا السياسي. فهم مع بوتين وروسيا، ولكن مع روسيا ليبرالية موالية للغرب. محدّثة ومغرّبة، مع العولمة والتكامل مع العالم الغربي، ومع القيم والمؤسسات الغربية. الشيء الأهم هنا هو أن كلا الطابورين، بالمعنى الجيوسياسي، ضد روسيا كحضارة وضد بوتين كزعيم تاريخي لها. بوتين اليوم مشغول بصناعة التاريخ. ورسالته التاريخية القاضية ببعث روسيا، هي بالذات موضوع أحقاد الطابور السادس. وها هم استراتيجيو واشنطن يعدّون لروسيا شيئاً على غرار أوكرانيا".
لكن غلازييف لا ينتقد الليبراليين وميولهم الغربية ومخاطر سياساتهم وحدها، فها هو موقع "ووردكريزيسز.رو" ينقل عن ، رئيس "شركة الخبرة الاستشارية" (نيوكون)، الاقتصادي الشهير ميخائيل خازن قوله عن سياسة حاكمة البنك المركزي الروسي، إيلفيرا نابيولينا، في مايو/ أيار الماضي "جرت محاولة إيجاد نظام حسابات روسي داخلي، منذ سنوات عدة، دون الحاجة إلى لاعبين خارجيين أو عملات غير الروبل. وحين بات كل شيء جاهزاً لإطلاق العمل، في أواسط العام الماضي، جاءت نابيولينا وقامت بإغلاق المشروع بقسوة".
وتسلّمت نابيولينا رئاسة المصرف المركزي الروسي منذ 24 يونيو/حزيران 2013. وأضاف خازن تهمة أشدّ وضوحاً للطاقم الاقتصادي في الحكومة، المتهم بإفقار الناس لدفعهم إلى "ميدان" جديد ضد بوتين "القائمون على سلطات روسيا النقدية، بطلب من رؤسائهم في واشنطن، وبهدف الإطاحة ببوتين، يثيرون احتجاجات شعبية لدى السكان الغاضبين من ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية المستوردة".
الأكيد أن هناك حراكاً غربياً ضد السلطة الروسية الحالية، لكن من المؤكد أيضاً، أن أسباب الاستياء والاحتجاج النشط، تراكمت، وتُنذر بإمكانية انفجار الأوضاع الاجتماعية في أي وقت، ولن يصعب حينها استغلال الاحتجاجات، إذا ما اندلعت، لخدمة أجندات خارجية تستهدف روسيا بالتوازي مع أجندة تغيير روسية مناهضة للنهج البوتيني الداخلي.