طبيب الغلابة وتجّار الطب
رحيل الدكتور محمد مشالي النبيل الذي عُرفَ باسم طبيب الغلابة كان موضع إجماع من القاصي والداني والمعارض والموالي على خسارته ونعيه والترحم عليه، والدعاء أن يُنزل الله شآبيب رحمته على هذا الإنسان الذي خدم الإنسانية بعلمه وطبه طوال خمسين عاماً. زهدَ محمد المشالي بمال الدنيا، وكان يعالج الفقراء مجاناً، أو بأجرٍ زهيدٍ، واستحقَّ عن جدارة اسم طبيب الغلابة، واستحقَّ كلَّ ما كُتبَ عنه من نثرٍ أو شعر:
وليتَ النَّطاسيّينَ كانوا جميعُهم
كخُلْقِ المشالي لا يريدُ المكاسبَا
وكلّ الذي يبغيهِ تقديمُ طِبِّهِ
لكلّ مريضٍ عاجزٍ أن يُحاسِبَا
وكمْ من طبيبٍ عندنا لم يكن لهُ
سوى اسمٍ وبالتشليحِ كان مناسبَا !!
أبقْراطُ منهمْ قد تبرّأَ واشتكى
وكلُّ طبيبٍ عندَهُ صار راسبَا
فللطِبّ أخلاقٌ جميلٌ وجودُها
وإنْ تُفتقَدْ كان الطبيبُ مُحاسَبَا
طغت وفاة طبيب الغلابة المصري على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، ونعاه بعض الحكام والقادة، وأُصدرتْ قراراتٌ لتسمية بعض المنشآت الطبية باسمه، وتسمية بعض دفعات خريجي كلية الطب تكريماً له، ولدوره الإنساني الذي يجسد، فعلاً لا قولاً، مهنة الطب التي تحوّلتْ عند كثيرٍ من الأطباء إلى تجارةٍ تدرّ مالاً وفيراً، وصرنا نسمع عن أرقامٍ ضخمةٍ، لإجراء العمليات الجراحية، وللكشف وتشخيص المرض، وقد يموت الفقير عند باب المستشفى، لأنه لا يملك مالاً لدخوله للعلاج.
لسان حال بعض الأطباء يقول إنه درس وتعبَ في تحصيله الدراسي، ليتخرّج طبيباً، وإنه بالتالي جديرٌ بالمال الذي يُعطى له من المرضى، وكأنّ الآخرين خريجي الكليات الأخرى لم يتعبوا ولم يدرسوا، مع العلم بأن الراتب الشهري لأيِّ خريجٍ هو أقلُّ مما يحصل عليه الطبيب في اليوم.
صرنا نشاهد كيف يستهتر كثير من الأطباء بحياة المرضى، لأنّ همهم الأوحد هو المال فقط، دون وازعٍ أخلاقيٍّ أم مهنيٍّ، وكم من مريضٍ فقد حياته نتيجةً لاستهتارهم وجشعهم!
ساهم كلٌّ من العجيلي والبارودي في علاج المرضى الفقراء ونشر الوعي الصحي، ومحاربة الجهل، وكانا يكتبان من وحي عملهما في الطب، ووثقا بطرافةٍ ما مرّ معهما من حوادثَ ومشاهدات
قد لا يحتاج المريض إلى إرهاق كاهله، وهو الذي يعيش على الكفاف، إلى التصوير والتحليل، ولكن الطبيب يرغمه على ذلك، من أجل زيادة المال الذي سيوضع في رصيده، وليس من أجل تشخيص المرض، لأن له نسبةً من أرباح مركز التحليل والتصوير الذي أرسل إليه المريض. وقد يكتب الطبيب للمريض أدويةً غالية الثمن، مع وجود مثيل لها بسعرٍ أرخصَ، وبنفس الفعالية، لأنه متعاقد مع شركة الأدوية تلك، وله نسبة من الأرباح. وقد يأتي المريض إلى المستشفى العام، فلا يهتم به الطبيب، ويحوله إلى المستشفى الخاص الذي يعمل فيه.
كثيراً ما نسمع أن العملية نجحت لكن المريض مات، وطبعاً تكلفة العملية تكون قد صارت في جيب الطبيب، قبل إجراء العملية. هؤلاء الأطباء الذين استبدّ بهم الطمع تناسَوا قسم أبقراط وما أقسموا عليه، لمساعدة الفقراء والمحتاجين.
رحيل طبيب الغلابة محمد المشالي ذكّرَ بأطباءَ آخرينَ، لا يقلّونَ عنه إنسانيةً ونبلاً يعيشون بيننا، ولكنْ لم يُسلّطْ عليهم الضوء. وذكّرَ أيضاً بمَن رحل من الأطباء الذين تفانَوا في خدمة أهلهم ومدنهم، كالشاعر الدكتور وجيه البارودي والأديب الدكتور عبد السلام العجيلي اللذين حازا شهادة الطب، وعملا على مساعدة الفقراء والمحتاجين في كلٍّ من حماة والرقة.
افتتح الدكتور البارودي أول عيادة طبية له في مدينة حماة عام 1932 واستمرّ في عمله ثلاثةً وستين عاماً، كان فيها نصيراً للفقراء، والطبيب والإنسان بكل ما تحمله الكلمات من معانٍ، حتى نال لقب "أبو الفقراء"، واشتُهرَ بذلك في أنحاء محافظة حماة. افتخر البارودي بهذا اللقب، وتحدّثَ بشِعره عن حبه للفقراء وعداوته للمال، ومن ذلك قوله:
وبيني وبين المال قامتْ عداوةٌ
فأصبحتُ أرضى باليسير من اليسرِ
وأنشأتُ بين الطِّبِّ والفقر ألفةً
مشيتُ بها في ظلِّ ألوية النصــرِ
ويقول في قصيدة أخرى:
في خدمة المحموم والمحروم والمتسوّلِ
فيما فعلتُ سعادتي.. لا في غنى المتموّلِ
وكذلك فعل الدكتور عبد السلام العجيلي الذي آثر البقاء في مدينته الرقة، لخدمة أهله، على الرغم من المغريات الكثيرة التي يمكن أن تجذبه إليها في أماكنَ أُخرى. عاد العجيلي إليها ليفتتح عيادته عام 1945 ليحتضن فيها أهالي مدينته، وكان أول طبيبٍ من أبناء مدينة الرقة.
عُرفَ العجيلي بحبه للناس وتواضعه، ومساعدته الفقراءَ، وأصبحت عيادته مقصداً للناس في الرقة والمناطق المحيطة بها. وكانوا يجلبون له الجبن والسمن من قراهم كهدايا تقديراً لعلاجه لهم، ولعدم تمكنهم من دفع المال لطبيبهم المفضل، ولشراء الدواء.
ساهم كلٌّ من العجيلي والبارودي في علاج المرضى الفقراء ونشر الوعي الصحي، ومحاربة الجهل، وكانا يكتبان من وحي عملهما في الطب، ووثقا بطرافةٍ ما مرّ معهما من حوادثَ ومشاهدات.
لم يتذكرِ الناس الأطباء الذين يستحقون فعلاً هذا الاسم، فقد تذكّروا أيضاً بعض الأطباء الجشعين الذين كان جمع المال ديدنهم. من جهتي أنا تذكرتُ طبيب الأسنان الذي كنت قد واظبتُ على عيادته في إحدى المدن العربية، وكانت شهادة اختصاصه من باريس "مربط خيلنا"، وكان قد وضع لي جسراً فوق خُراج، ليسقط الجسر بسببه، بعد العذاب والمشقة لعدة شهورٍ، إضافةً إلى التكلفة المالية آنذاك.