مع بداية فصل الشتاء، تنتاب رب الأسرة العراقي محسن تكليف الفرطوسي حالة من القلق العميق، بسبب خوفه على مصير أبنائه الثلاثة الذين يرتادون مدرسة طينية في أطراف مدينة الناصرية، جنوب العراق، والتي تحتل مركزاً متقدماً في عدد هذا النوع من المباني التعليمية التي كان من المفترض التخلص منها وبشكل نهائي منذ منتصف عام 2012 وفق بيان حكومي حدد هذا التوقيت لإغلاق الملف صدر في أغسطس/آب عام 2011.
يخشى الفرطوسي من تكرار سيناريو انهيار المدرسة أو سقوط سقفها بسبب موجة الأمطار الغزيرة والرياح التي تجتاح منطقتهم في فصل الشتاء، وهو ما وقع لإحدى مدارسهم الابتدائية في خريف عام 2013، لكن تعطيل الدوام الرسمي في ذلك اليوم، حال دون فقدان 120 طالبا يرتادون تلك المدرسة.
معاناة قاسية جنوب وشمال العراق
قبل عام سادت حالة من الفرح والاستبشار بين أهالي المنطقة، كما يقول الفرطوسي، إذ هُدمت إحدى المدارس الطينية واستُبدلت بأخرى من الخرسانة، غير أن الفرحة تحولت إلى خيبة أمل بعد اقتصار الحملة على تلك المدرسة الوحيدة ولم تتمدد إلى قريتهم، على الرغم من الوعود الرسمية المقدمة لهم من المسؤولين بقرب إنهاء الكابوس الطيني الذي يهدد العراقيين جنوبا وشمالا، ففي محافظة صلاح الدين، شمال بغداد، يعكف المعلم حسن ناهض الجبوري مع عدد من زملائه وتلامذته على تحضير مدرستهم من أجل استقبال فصل الشتاء الذي يزيد من معاناة التلاميذ في منطقة الجزيرة (غرب مدينة تكريت مركز محافظة صلاح الدين).
وبينما يعمل الجبوري على استبدال الغطاء البلاستيكي البالي بآخر جديد يستخدم لتغليف سقف مدرستهم الطينية ومنع الأمطار من التسرب إلى الصفوف الدراسية فضلاً عن سد الشقوق والفجوات الحاصلة في الجدران الطينية وتدعيم الأبواب والشبابيك، قال لـ"العربي الجديد"، "هذه العملية تتكرر في كل عام مع بدء فصل الشتاء".
ويوضح المعلم العراقي، أن محافظتهم (صلاح الدين) بقيت في أعلى قائمة "المدن العراقية الحاوية للمدارس الطينية" وخصوصاً في مناطق القرى والأرياف الأمر الذي انعكس بسلبية واضحة على نتائج العملية الدراسية والتحصيل العلمي للطلبة، متسائلا عن النتائج المتوقعة من طالب يدرس في بناية تحيطها الأوحال الناجمة عن الأمطار، بينما تنخفض درجات الحرارة بشكل كبير في صفوفها، مضافاً إليها مشكلة الإنارة الضعيفة والتجهيزات المدرسية الفقيرة.
تراجع المستوى التعليمي في مدارس الطين
تراجع المستوى التعليمي في المدارس الطينية، يرجع إلى أسباب صحية وأخرى إدارية وفق ما وثقه المشرف التربوي السابق حمزة سلمان الجنابي، والذي عمل لأكثر من 35 سنة في مجال الإشراف التربوي وتحديداً في القرى والنواحي الجنوبية لمحافظة بابل (جنوب بغداد) مؤكداً أن النتائج في هذه المدارس تنخفض بشكل كبير عن مثيلاتها النظامية.
وأوضح المشرف التربوي الجنابي أن المشاكل التي تحاصر التلميذ الدارس في بناية طينية، تتمثل في عدم ملائمة ظروف الإنارة والتهوية وتوفر مصادر مياه الشرب النظيفة والمرافق الصحية الملائمة وكذلك الطرق المؤدية إلى المدرسة والتي تكون غالباً ترابية أو مفروشة بالحصى فقط، مضيفاً أن مناطق هذا النوع من المدارس يعد بيئة مناسبة لتهديدات خطيرة على حياة التلاميذ ومنها العقارب والأفاعي، فضلاً عن المخاطر الطبيعية المتمثلة بوهن هذه المباني أمام الظروف المناخية من أمطار ورياح في الشتاء ودرجات حرارة عالية وعواصف ترابية في الصيف.
ويتابع الجنابي في حديثة لـ"العربي الجديد"، تعصف المشاكل الإدارية بالمدارس الطينية، إذ تنقصها الكوادر التدريسية كما يغيب عنها اهتمام الجهات الرسمية، مبيناً أن قلة الكادر التعليمي يجعل الإدارة تلجأ إلى حلول مثل تكليف الأستاذ الواحد بتدريس العديد من المواد أو إختصار المناهج أو حتى إهمال بعض الدروس وهي طرق تؤدي بالضرورة إلى تراجع خطير في مدى استفادة الطالب من العام الدراسي وتنعكس بالتأكيد على نتائجة ودرجاته النهائية.
خريطة توزيع مدارس الطين
بسبب عدم وجود إحصائيات رسمية حديثة عن عدد المدارس الطينية وتوزيعها في العراق، تواصل معد التحقيق مع مسؤولين في الحكومات المحلية لمحافظات العراق وفرق مسح تابعة لشركات بناء تمتلك عقود رسمية لتشييد المدارس وانتهت الإحصائية إلى وجود 708 مدرسة تتوزع بين محافظات العراق "باستثناء إقليم كردستان في شمال العراق"، إذ تحتوي محافظة صلاح الدين على 97 مدرسة طينية، وذي قار 95، ونينوى 92، وواسط 91، وكركوك 64، وميسان 59، والديوانية 65، والعاصمة بغداد 39، والمثنى 34، والأنبار 31، وديالى 24، والبصرة 21، وبابل 14، وكربلاء 2، بينما خلت محافظة النجف (جنوب بغداد) من أي مدرسة طينية بعد أن كانت تحتوي على اثنتين قبل خمسة أعوام، واستبدلت بمدارس نظامية.
وتظهر الإحصائية التي تكشف عنها "العربي الجديد" وجود انخفاض واضح في عدد هذه المدارس والتي كانت المصادر الإعلامية والتربوية غير الرسمية تقدرها بأكثر من ألف مدرسة في عام 2011 وهي السنة ذاتها ألتي أعلنت وزارة التربية العراقية عن خطتها للانتهاء من ملف المدارس الطينية وبشكل كامل، وحددت منتصف عام 2012 موعدا نهائيا لتنفيذ هذه الخطة.
داعش وتلكؤ الشركات يعرقلان الخطة الحكومية
يعزو مدير الأبنية المدرسية في وزارة التربية العراقية ورئيس المهندسين ماجد محمد أمين، عدم اكتمال خطة الانتهاء من إزالة المدارس الطينية في موعدها، إلى تلكؤ الشركات المنفذة لأعمال الهدم والتشييد بعد أن قامت الوزارة، بتحديد عدد من المدارس المشمولة ضمن هذه الخطة الرامية إلى القضاء على المدارس الطينية الأكثر خطورة والتي تم تحديد مواقعها وإحالتها إلى الشركات عبر ثلاث مناقصات موزعة على مدن العراق.
ويكشف مدير الأبنية المدرسية، إنجاز المقاولة الأولى والمتضمنة بناء مائة مدرسة بسبعة صفوف دراسية في محافظات بابل والديوانية وواسط وبغداد بينما بلغت نسبة الإنجاز 58% في المقاولة الثانية والتي تشتمل على بناء 127 مدرسة في محافظات البصرة والناصرية والمثنى في حين دفعت ظروف الحرب مع تنظيم داعش الارهابي بالشركات المنفذة إلى طلب إنهاء التعاقد في المقاولة الثالثة والتي كان من المفترض أن ينجز بموجبها 181 مدرسة في محافظات ديالى وصلاح الدين وكركوك ونينوى.
ويؤكد المهندس أمين لـ"العربي الجديد"، أن بند إزالة المدارس الطينية يحتل أولوية لدى الحكومة العراقية ووزارة التربية، إذ تم تخصيص أموال من هيئة مكافحة الفقر التابعة لمجلس الوزراء العراقي وكذلك ضمن الخطة الاستثمارية لوزارة التربية، مؤكداً وجود تقدم حقيقي في هذا الملف على حد وصفه.
هدم بلا بناء
يرى عضو مجلس الأباء والمعلمين في ناحية اليوسفية "جنوب بغداد" إبراهيم جمعة الخالدي أن انخفاض عدد المدارس الطينية لا يشير بالضرورة إلى تطور إيجابي في هذا الموضوع، مضيفاً أن عدد كبير من المدارس الطينية هُدمت بالفعل، ولكن لم تبنَ مجدداً، وبالتالي فإن الأرقام التي تتناقص من قائمة المدارس الطينية لا تعني بالضرورة إضافة أرقام مماثلة في خانة المدارس الحديثة والنموذجية.
واصطحب الخالدي معد التحقيق إلى موقع مفتوح تتوسطة تلة ترابية قائلا "إنها كل ما تبقى من مدرسة الرازي للدراسة المتوسطة في منطقة اليوسفية والتي جرت عملية هدمها قبل ثلاث سنوات، وأقيمت صفوف متنقلة "كرفانات" محلها لاستئناف الدراسة فيها بشكل مؤقت حتى اكتمال المدرسة الجديدة، والتي لم تر النور حتى الآن".
لا تقتصر هموم الخالدي وزملائه في مجلس الآباء والمعلمين على مدرستهم الطينية المهدمة وحدها، إذ إن المدارس المشيدة في منطقتهم بدلا من تلك الطينية، تم استخدام مواد رديئة جداً مثل قوالب الأسمنت للجدران والصفائح المعدنية والألواح الخشبية للسقف بينما تركت أرضيات الصفوف والساحات عارية من دون إكساء، لافتا إلى ان حال هذه المدارس لا يقل سوءاً عن مثيلاتها الطينية.
مخصصات مالية ضخمة
يكشف تقرير صادر عن لجنة التربية والتعليم في البرلمان العراقي في أيلول/ سبتمبر 2013، عن تخصيص مبلغ 830 مليار دينار عراقي (يعادل 700 مليون دولار) من أجل بناء مدارس جديدة وتطوير القديمة بالإضافة إلى مبلغ خمسة ملايين دينار عراقي (4 آلاف دولار) يتم صرفة سنوياً لكل مدرسة بغية تحسين البيئة الدراسية فيها.
وبحسب المهندس علاء صباح النوري والذي يعمل في شركة مقاولات تختص بتنفيذ مشاريع حكومية، فإن تكلفة بناء مدرسة مكونة من 15 صفا دراسيا ومختبرين وثلاث قاعات رياضية وقسماً إدارياً وملحقات صحية لن تزيد في كل الأحوال عن مبلغ مليار دينار عراقي (يعادل 850 ألف دولار أميركي).
ويشرح المهندس النوري لـ"العربي الجديد" أن هذه الكلفة يمكن أن تنخفض بشكل ملحوظ في حالة استلام شركة واحدة مشاريع تنفيذ أكثر من مدرسة بسبب تقليل كلفة مواد وتجهيزات البناء والتي تنخفض أسعارها في حال شرائها بالجملة في معادلة معروفة في مجالهم.
ومع أن الناتج الحسابي من مبلغ 830 مليار دينار (المخصصات الحكومية لبناء المدارس)، وبكلفة مليار دينار للمدرسة الواحدة يعني حصول العراق على أقل من ألف مدرسة في السنوات الثلاثة الأخيرة إلا أن جميع البيانات الرسمية التي حصل عليها "العربي الجديد" للأعوام الثلاثة الماضية، تنفي حصول وزارة التربية العراقية، على ثلث هذا العدد بينما تذهب الإحصائية الرسمية الصادرة من وزارتي التربية والتخطيط العراقيتين في تموز/يوليو الماضي إلى حاجة ملحّة لبناء 20 ألف مدرسة من أجل سد النقص الموجود حالياً في الأبنية المدرسية.