عاشت باريس على مدى ليلتين طيراناً غير عادي لطائرات من دون ربان، في مناطق عديدة من العاصمة قرب نهر السين وعلى مقربة من برج إيفل. هذه الحادثة التي وضعت السلطات في موقف محرج، مع استمرار عجزها عن كشف من يقف وراءها، أثارت الفضول في نفوس المواطنين أكثر من القلق أو الخوف، بسبب تكرار طيران هذا النوع من الطائرات التي لا يمكنها أن تحلق أكثر من 15 دقيقة، والتي لا توجد ترسانة قانونية تضبطها وتعاقب على أي مخالفة.
خمس طائرات من دون طيار حلقت في أجواء باريس ليل الثلاثاء الأربعاء، ولليلة الثانية على التوالي، وبشكل خاص في منطقة ساحة لاكونكورد، وإن كانت بشكل أقل احتفالية من الليلة الأولى التي أمكن رؤيتها في أماكن عديدة في العاصمة. وقد تلقى المحققون في الشرطة الفرنسية المكلفة بالنقل الجوي، أوامر بالتحرك، وأنشئت خليّة تتكون من 10 أفراد لمراقبة الطيران الليلي.
وكان الخوف الأكبر هو أن يكون الإرهاب خلف هذه الاستعراضات المثيرة، ولكن السلطات الفرنسية المختصة حسمت الأمر، واستبعدت هذه الفرضية. كما تم استبعاد الشبهات حول أنصار البيئة، مؤقتاً، وتبقى الشكوك تحوم إمّا حول هواة عاديين أو هواة من طراز متقدم.
والجدير بالذكر أن الأمر يتعلق بظاهرة متكررة، ولكن الذي دفع لبعض الفضول هو أن أولى الطائرات شوهدت في مكان غير بعيد من محيط السفارة الأميركية في باريس ثم فوق منطقة ليزانفاليد، وهناك غابت عن الأنظار. وبعدها شوهدت طائرات أخرى في مناطق عديدة من العاصمة، خصوصاً قرب برج إيفل، ثم حي مونبارناس وساحة لاكونكورد حيث توجد السفارة الأميركية.
اقرأ أيضاً: باريس ترفع مشاركتها الحربية: لا نبارك زيارة دمشق
وليست هذه المرة الأولى التي تشهد فيه مناطق في فرنسا هذا النوع من الطيران المريب والغامض، والذي لا يزال من دون تفسير. وتُقدّر السلطات الفرنسية حتى الآن حصول أكثر من 15 حالة طيران مجهولة في فرنسا، في الشمال وفي جيروند، وأيضاً في تارن وإيزير والمانش، حتى أن طائرات غامضة حامت حول 19 مفاعلاً نووياً، بما فيها مقر مفوضية الطاقة النووية والطاقات البديلة في منطقة ليسون، كما أن طيراناً غامضاً تمَّ تسجيله في مدينة بريست حيث كانت ترسو أربع غواصات نووية، وكان من المفروض أن يحظى المكان بسرية أكبر.
إضافة إلى ما جرى، فإن أكثر من ثلاثين حالة طيران تم تسجيلها ما بين شهر أكتوبر/تشرين الأول وشهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2014. والطريف أن قصر الإليزيه لم يَسْلم من هذه الظاهرة، حتى وإن تمت لفترة قصيرة جداً، وكان الجسم الطائر صغيراً جداً، مما دفع السلطات إلى نفي أي طابع إرهابي للعمل.
والغريب أن السلطات الفرنسية المختصة ظلت عاجزة، حتى الساعة، عن اقتفاء أثر الفاعلين أي المتحكمين في إرسال هذه الأجسام الطائرة واستعادتها، إلا في حالة واحدة فقط، وحينها تمَّ اعتقال ثلاثة أفراد وبحوزتهم طائرة صغيرة، في منطقة شير غير البعيدة عن المفاعل النووي، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ويزداد الغموض والارتباك في معالجة هذه الأعمال المتكررة، خصوصاً أن منظمة "غرينبيس"، التي تحوم حولها كثير من الشكوك، وتحديداً في ما يتعلق برصد المفاعلات النووية، والتي لم تنف قيامها سابقاً باستخدام طائرة صغيرة ذات محرّك واحد في الطيران فوق مفاعل "بُوجي"، نفت هذه المرة أي ضلوع لها في هذا النوع من الطيران.
وحتى الساعة لا تملك السلطات الفرنسية إلا فتح تحقيق حول "قيادة جسم قادر على الطيران لا ينسجم مع قواعد السلامة" أو حول "طيران في منطقة محظورة". كما أن الحكومة أعلنت عن وضع "وسائل إنذار من أجل تحديد مصادر هذا النوع من الطيران"، إضافة إلى "وسائل للتصدي لهذه الطائرات".
وإذا كانت من آثار إيجابية لما يحدُث، فيمكن أن تكون في سعي جدي للسلطات الفرنسية لمنح وزارة الداخلية دوراً هاماً في المجال القانوني وفي التنسيق بين القوات العاملة من الشرطة والدرك والقوات الجوية، من دون إهمال الدور المهم لوزارة الإيكولوجيا، في ما يخص "تقدير المَخَاطر والتهديدات"، وكذلك لوزارة الدفاع حول دورها "العملاني"، والذي يتلخص في تحديد بعض تكنولوجيات الاكتشاف والتشويش التي يمكن استخدامها لاحقاً.
وتبدو السلطات الفرنسية مُحرَجة جداً، ولهذا فإن أوامر صدرت بتعقّب من يرسل ويتحكم بهذه الأجسام الغريبة، كمرحلة أولى، واللجوء إلى القوة وإسقاطها إذا ما حامت حول أماكن استراتيجية كالمفاعلات النووية وأماكن حساسة أخرى.
وفي انتظار كشف لغزها الحاسم، عبَّر كثير من المواطنين عن استعدادهم لرصدها إذا ما عادت ليلاً، والتقاط صُور لها وتتبّع مساراتها قبل أن تختفي في سماء باريس.