بدت المنطقة العربية بما تحتوي من أماكن مقدسة مقصداً أساسياً للرحّالة المستشرقين الذين وفدوا إليها منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، يدفعهم أيضاً افتتانهم بالشرق وفق منظور إكزوتيكي، إلى جانب حضور عدد من العسكريين ورجال الاستخبارات الذين قدموا في الفترة نفسها لتوثيق واقع الحياة تحت الحكم العثماني والتجسّس عليها.
ضمن هذا الإطار، نشط التصوير الفوتوغرافي الذي كان وقتها موضة أوروبية صاعدة، وخلال فترة وجيزة، قرّر عدد من الأوروبيين الذين وفدوا إلى الشرق تأسيس استوديوهات دائمة في عدد من المدن مثل القاهرة وبيروت وحلب ودمشق والقدس، يزاحمهم في ذلك فوتوغرافيون أرمن كانوا من أوائل المواطنين العثمانيين الذين تعلّموا تقنيات التصوير، ليؤطروا مرحلة كاملة من إنتاج المعرفة عبر الصورة ويفرضوا هيمنتهم عليها.
حتى الثالث والعشرين من شباط/ فبراير المقبل، يتواصل في "متحف سرسق" ببيروت معرض "عائلة بونفيس: صورة لعائلة من المصورين في بيروت"، الذي افتتح في التاسع من أيلول/ سبتمبر الماضي ويضمّ آلاف الأعمال التي التقطتها الأسرة الفرنسية لمعالم في مصر وسورية وفلسطين وتركيا واليونان، إضافة إلى لبنان. ورغم القيمة التاريخية لهكذا معرض فإن ما يؤخذ على منظميه ومنظمي غيره هو عدم أخذ مسافة نقدية كافية من المحمولات الاستشراقية التي يضمها.
أقام فليكس بونفيس (1831-1885) في محلة باب إدريس البيروتية عام 1867، وأنشأ واحدا من أوائل استوديوهات التصوير في المنطقة، مع زوجته ليديا (1837-1918) وابنهما أدريان (1861- 1929)، عقب قدوم القوة العسكرية الفرنسية التي أتت بعد إقرار متصرفية لبنان سنة 1861، والتي ضمت عدداً من المصورين الذين عاد معظم بينما استقرّت هذه الأسرة حتى منتصف الحرب العالمية الأولى، قبل انتقال ليديا إلى القاهرة.
يضمّ المعرض جانباً من أرشيف العائلة الذي أحضره فؤاد دبّاس (1930-2001) من باريس مشتملاً على ثلاثة آلاف صورة، وخضعت للدراسة والتصنيف والمسح الرقمي لتمثّل في تسلسلها الزمني رحلة الثلاثي بونفيس من جنوب فرنسا حتى العقد الأول من القرن الماضي.
يوضّح تقديم المعرض أن المجموعة ليست نادرة في المواضيع التي تناولتها والأحداث التي سجلتها، لكنها تحتوي كمّاً هائلاً من الصور والوثائق للمجتمع اللبناني ومنها نسخ من شهادات الميلاد والزواج والإعلانات المبوّبة، وبورتريهات لعدد من الشخصيات الأوروبية التي عاشت في بيروت خلال تلك الفترة.
وتشكّل الصور المعروضة جزءاً من خمسة مجلدات ألّفها بونفيس الأب بعنوان "ذكريات من الشرق: ألبوم رائع عن المواقع والمدن والأطلال الفريدة من نوعها"، والتي تبرز اهتمامه بالآثار والطرز المعمارية التاريخية في بلاد النوبة وأثينا والقسطنطينية وحواضر بلاد الشام وشواطئ المتوسط، مع شروحات تصف كلّ صورة منها.
في هذا الكتاب، تنعكس الذهنية التي قادت بونفيس إلى مغامرته حيث يشير إلى أن "كلّ شيء يبدو ثابتاً في الشرق حتى في التفاصيل الصغيرة"، مضمراً بذلك "تفوّق" الرجل الأبيض الذي لا يرى المشهد ضمن عوامل اقتصادية واجتماعية أدّت إلى "تأخر" الشرق في تلك اللحظة، بل إنه يسحبه على امتداد التاريخ حين يقول: "عشرون قرناً مرت دون أي تغيير في شكل هذه الأرض الفريدة".
وتتبلور رؤيته وهو يقف خلف العدسة، حين يلفت إلى أنه يجب العمل بسرعة للتمتع بهذه المشاهد قبل أن يأتي عليها "التحضر" وينهي تلك الحالة التي شغف فيها باعتبارها غير مدينية، حيث نموذج المدنية بالنسبة إليها مرتبط بتصوّرات المركزية الأوروبية حولها.