عاصمة الموت
ربما مشكلتنا كلبنانيين أننا اعتدنا أن نعيش على الأطلال. أطلال بيروت الجميلة التي اعتادت القيامة بعد كلّ موت. أطلال طائر الفينيق الذي ينبعث مجدداً من الرماد. أطلال ذكريات موجودة فقط في حكايات أهالينا وماضيهم.
أنا من الجيل الذي لم يعرف إلا بيروت المهزومة، المكسورة، المليئة بالخيبات. لم أشعر يوماً بأنّ بيروت الوسط تشبهنا. هي العاصمة، عليها ربما أن تكون عصريةً بمبانيها الشاهقة وأسواقها المزدحمة ويخوتها الراسية على شاطئ مسلوب. لكنّ بيروت الجميلة حقاً هي تلك الموجودة بين الأنقاض التي بُنيت فوقها بيروت الحديثة.
قبل أربعة أيامٍ فقط على انفجار بيروت الكارثي، كنت قد بدأت بكتابة نصّ عن العاصمة التي لا تشبهنا. بعد الانفجار، تردّدت كثيراً قبل مشاركة تفاصيله. شعرت أنّني، من دون أن أدري، ألقيتُ تعويذةً ما على عاصمةٍ، لم أرد إلا أن تشبه أحلامنا وطموحاتنا، وألا تبقى مقبرة للأرواح المكسورة، والأحلام الضائعة.
كتبت ما حرفيته: "ابحثوا عن بيروت في عيون كبارها، في خبايا آثار الرصاص المعلّق على جدران مبانيها الشاهدة على الحرب، ومتاريس أحزاب ما زالت تمعن في قتلها يوماً بعد يوم. ابحثوا عن بيروت الجميلة في أرشيف صورها، في "الأباجورات" المهترئة، في الأشجار التي طمرها العمران وعلى سطوح منازلها. ابحثوا عنها في الذكريات. بيروت جميلةٌ من فوق، جميلةٌ من بعيد. لا تقتربوا منها، فهي قد ترديكم قتلى...".
بعد 4 أغسطس/ آب المشؤوم، حتى بيروت الجميلة اختفت. بيروت التي عايشت أسوأ الأزمات وخرجت منها منتصرةً، مُحيت اليوم من ذاكرتنا.
سنبقى نتذكر، نحن من كنّا نبحث عن عاصمة تشبهنا، أنّ هذه المدينة لم تكن موجودة يوماً إلا في خيالنا، وستبقى صورة الانفجار الزلزال عالقة في أذهاننا، حتى نتعلّم ألا نعتاد، وأنّ قيامة بيروت، وقيامتنا معها، نحن من يجب أن نصنعهما.