في ظرف ساعات قليلة، عاد اللبنانيّون أسابيع إلى الوراء، تحديداً إلى منتصف شهر مارس/ آذار الماضي، عندما وقع آخر انفجار انتحاري في بلدة "النبي عثمان" البقاعيّة، شرق البلاد. في غضون لحظات، ارتفع منسوب الحذر والخوف، وخصوصاً أن اللبنانيين ظنوا أن الخطة الأمنيّة التي بدأ تطبيقها في أبريل/ نيسان الماضي، قد قضت على هذه الأعمال. فقد فجر انتحاري نفسه في حاجز لقوى الأمن الداخلي في منطقة ضهر البيدر على طريق بيروت ـ البقاع. ونتج عن الانفجار قتيل وأكثر من ثلاثين جريحاً، بينما نجا المدير العام للأمن العام، عباس إبراهيم، من هذا التفجير، إذ حصل الحادث قبل مرور موكبه بدقائق.
وقبل التفجير الانتحاري، قام "فرع المعلومات"، التابع لقوى الأمن الداخلي، والأمن العام اللبناني، بمداهمة أحد فنادق العاصمة اللبنانية، في شارع الحمراء، حيث تم توقيف 17 شخصاً من جنسيات مختلفة، بعد الاشتباه بتحضيرهم لأعمال أمنية في بيروت ومحيطها. مداهمة خلقت بلبلة كبيرة في الشارع اللبناني، وخصوصاً أنه جرى توقيف أكثر من مئة شخص من جنسيات عربية مختلفة، ليطلق سراح معظمهم ويستقر الرقم على 17 موقوفاً. وقد تبيّن أن المفرج عنهم يشاركون في اللقاء السنوي لـ"المؤتمر القومي العربي".
بعد انتشار الخبر، راجت معلومات عن أن لا قيمة للمداهمة، وأن كل ما حصل هو التأكّد من هويات النزلاء. لكن مصادر في وزارة الداخليّة أكّدت، لـ"العربي الجديد"، أن المداهمة تُعَدّ إنجازاً أمنياً، وأشارت إلى الحاجة إلى بعض الوقت لانتهاء التحقيقات. وقالت هذه المصادر، إن المداهمة تؤكّد على "دور فرع المعلومات في مواجهة الإرهاب"، وأن هذه المهمة ليست محصورة في جهاز أمني دون غيره، في إشارة للجيش اللبناني واستخباراته.
لم يتأخر ردّ الجيش اللبناني، فاعتبر قائد الجيش، جان قهوجي، قبيل دخوله إلى اجتماع أمني عقد في السرايا الحكومية، أن "الوضع ليس خطيراً لهذه الدرجة، وهناك تضخيم للأمور". وبعد الاجتماع، كرّر قهوجي دعوته إلى عدم تضخيم الأمور، لكنه لفت إلى أن الأجهزة الأمنية تقوم بدورها، و"الوضع ممسوك ولا تنسوا أن المنطقة برمتها مشتعلة، وبالمقارنة لا يزال وضعنا جيداً".
في المقابل، نفى المدير العام للأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، لـ"العربي الجديد"، وجود صراع بين الأجهزة الأمنية اللبنانيّة، ولخّص الموضوع بأن "بعض المسؤولين يُصدرون مواقف بناءً على المعلومات المتوافرة بين أيديهم، ولكن عند حصول التنسيق وتبادل المعلومات، تختلف التصريحات".
وشرح إبراهيم ما جرى، مؤكداً على وجود اشتباه حقيقي بالمجموعة التي ألقي القبض عليها، فقد "وردتنا معلومات أمنيّة عن وجود خليّة، وقمنا بالتنسيق مع قوى الأمن الداخلي، بمداهمة الفندق واعتقال أفراد الخليّة. لا يمكن الجزم بما أرادت فعله هذه الخليّة، لأن التحقيقات لا تزال مستمرة، ولم يتم التثبُّت من جميع التهم بعد". وعند سؤاله عمّا إذا كانت هناك مساعدة خارجيّة في توفير المعلومات، أم أن جمعها كان من قبل الأجهزة اللبنانيّة، أجاب ممازحاً: "المعلومات لبنانيّة، كالرئيس الذي سيتم انتخابه".
وفي ما يختص بالتفجير الذي حصل في ضهر البيدر، وعمّا إذا كان محاولة اغتيال استهدفته، أشار إبراهيم إلى وجود فاصل زمني بسيط بين الموكب والتفجير، "وفي الأمن لا توجد مصادفات، كما لدينا معلومات عن التحضير لعمليّة اغتيال، آخرها ما تم تسريبه من الموساد عبر صحافية لبنانيّة تحمل الجنسية الإسرائيلية (تُدعى جولي أبو عراج)". لكنّ إبراهيم كان حذراً إزاء التسريب الإسرائيلي، مشيراً إلى أن "الموساد" لا يُسرّب معلومة "إلا إذا كان لديه هدفاً من وراء التسريب"، معتبراً أنه "ربما يسعى لفتنة في لبنان".
ورداً على التشكيك في جدية المداهمة، قالت مصادر قريبة من فرع المعلومات، لـ"العربي الجديد"، إن التشكيك ذاته، طال العمليتين الأكثر إثارة للجدل السياسي، وهما توقيف الوزير السابق ميشال سماحة، بتهمة إدخال عبوات من سورية إلى لبنان، والتحضير لتفجيرها لاغتيال عدد من الشخصيات والدينية بهدف إحداث فتنة مذهبية، ثم ملف توقيف العميد فايز كرم، (من المقربين إلى رئيس التيار الوطني الحرّ النائب ميشال عون) بتهمة التعامل مع إسرائيل، مطالبةً الرأي العام بـ"بعض الوقت حتى إنجاز التحقيقات بشكل كامل".
وتزامن التفجير الانتحاري واعتقال الخلية المشتبه بها، مع تشديد المعنيين للاجراءات الأمنيّة في الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل "حزب الله". وسبق التفجير عودة المعارك إلى مناطق القلمون السورية، وهي المنطقة التي اتهمها "حزب الله" بأنها مصدر السيارات المفخخة التي انفجرت في الأشهر الأخيرة في لبنان، واعتبر أن انتصاره في المعركة هناك على المعارضة السورية، أوقف هذه التفجيرات. كذلك أتى التفجير بعد 48 ساعة على تأكيد وزير الداخلية، نهاد المشنوق، عدم وجود خلايا لتنظيم "داعش" في لبنان. لكن الأهم، هو أن هذا التفجير يندرج في سياق الفشل في انتخاب رئيس للجمهورية منذ 25 مايو/ أيار الماضي، وتصدّع حكومة الرئيس تمام سلام، التي لم تستطع الاتفاق على آليّة لعملها بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهوريّة، ميشال سليمان، وإحالة صلاحياته إليها. كما يأتي هذا الحدث الأمني الجديد، في وقت تشتعل المنطقة أكثر فأكثر، خصوصاً مع تطور الأحداث في العراق.
إذاً، يدخل لبنان مرحلة أمنية جديدة، في ظل فراغ رئاسي، وخلاف بين الأجهزة الأمنيّة، عزت مصادر سياسيّة بعض أسبابه إلى انتخابات رئاسة الجمهوريّة، وسعي قائد الجيش لهذا المنصب. ومن الأسباب الأخرى لهذا الصراع، سعي هذه الأجهزة إلى تقديم نفسها للغربيين والدول الإقليمية، كجهة قادرة على "محاربة الإرهاب"، وخصوصاً أن هذا الملف عاد ليحتلّ الأولويات السياسيّة. وتشير مصادر أمنيّة إلى أن "مَن يحجز دوراً له في محاربة الإرهاب، حجز موقعاً سياسياً له في المرحلة المقبلة". وبطبيعة الحال، مَن يحجز موقعاً سياسياً في لبنان في المرحلة المقبلة، يحجز حصته من الغاز المكتشَف قبالة سواحله.