عبد الرحمن بدوي حين كان إلى جانب المستشرقين

21 ديسمبر 2018
عبد الرحمن بدوي في بورتريه لأنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

في سنواته الأخيرة، وتحديداً بين 1989 و1990، أصدر عبد الرحمن بدوي (1917 - 2002) كتابَين باللغة الفرنسية كشف فيهما عن انعدام أمانة المستشرقين وجهلهم باللغة العربية، وضحالة ونقص معلوماتهم عن المصادر العربية.

جاء هذا في معرض دفاعه في الكتاب الأول عن القرآن ضدّ منتقديه، وفي معرض دفاعه في الكتاب الثاني عن سيرة النبي محمد في وجه الأساطير والأقاويل الغربية المختلقة عن هذه السيرة، أي أن المفكّر الذي يوصَف بأنه شخصية فلسفية إشكالية انتقل من موقف من الحضارة العربية/ الإسلامية تبنّى فيه طوال ما يقارب ستّين عاماً أطروحات المستشرقين تجاه هذه الحضارة وفكرها وفنونها وعلومها، إلى موقف نقيض لا لبس فيه.

وفي هذا السياق، من الطريف والدالّ العودة إلى كتاب "التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية: دراسات لكبار المستشرقين"، والذي تضمّن مقالات ألّف بينها وترجمها بدوي، (1940، "مكتبة النهضة المصرية")، لقياس المسافة الشاسعة التي تفصل بين موقفَين: احتذاء مواقف المستشرقين، والانتقالُ إلى إدانتها إدانةً تكاد تكون مطلقة.

ينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام؛ هي: "وارث ووارث"، و"انتقال التراث"، و"الدين والتراث"، و"معارضة التراث". في القسم الأول، يترجم بدوي مقالة "تراث الأوائل في الشرق والغرب" لـ كارل هينرش بكر، وفيه يسأل كيف تقبّل الشرق والغرب تراث اليونان والرومان، وهل تقبّلاه على نحو واحد أم على نحوَين مختلفين.

ويرى صاحب المقال أن تراث الأوائل اصطدم في الشرق بأفكار جديدة، بينما اصطدم في الغرب بأناس جدد فحسب. وفي ما يتعلّق بالشرق، يرى تضاداً بين الروحَين الشرقية واليونانية؛ فالمثل الأعلى الثقافي للتربية لدى اليونان أساسه تقويم الشخصية عن طريق القيم الموضوعية، بينما النزعة السائدة في الروح الشرقية هي الحاجة إلى خلاص روحي يصبو إلى عبور الهاوية الفاصلة بين الله والإنسان.

ولكن صاحب المقال يلاحظ أيضاً أن الروح اليونانية، هضمت في عصور مختلفة من عناصر تطوّرها، عناصر شرقية جديدة دائماً، وبلغت هذه الروح المطبوعة بالطابع الشرقي (الهلينية) غايتها في الإسلام نهائياً. بل وتمضي هذه المقالة إلى ما هو أبعد، إلى القول إن "الحضارة القديمة استمرّ حاملوها هم حاملوها الأصليون، واستمر مسرحها هو مسرحها، ذلك لأن الإسلام كان هو الأجنبي الغريب الذي أراد أن يغزو العالم القديم المتأخّر، ولكنه خضع له من بعد، لما كان عليه العالم القديم من تفوّق. ولم يستطع أن يجعله عربياً إسلامياً إلّا في الظاهر فحسب".

ويصل إلى القول: "إذا ما بحثنا حضارات البلدان التي فتحها العرب، استطعنا أن نحكم بسهولة أن كل شيء بقي في الإسلام كما كان على عهده القديم، لم يُضف إليه جديد سواء، في ميادين السياسة وفن الحرب والاقتصاد أو العلم والفنون والصناعات".

وتحت عنوان "انتقال التراث"، تَرجم بدوي مقالةً ماكس مايرهوف "من الإسكندرية إلى بغداد: بحث في تاريخ التعليم الفلسفي والطبّي عند العرب"، وفيها يدرس الروايات المختلفة عن كيفية انتقال مدرسة الإسكندرية إلى أنطاكيا أولاً، ثم إلى حرّان فبغداد بين العامين 720م و900م، والمعني بذلك انتقال الدراسة والأساتذة، دراسة الطب والفلسفة وخاصة دراسة كتب أبقراط وجالينوس ومنطق أرسطو التي دخلت الإسكندرية قبل ظهور الإسلام بزمن طويل، ثم ترسّخت في ظل الخلافة العباسية عن طريق الترجمات السريانية والعربية.

ويلاحظ مايرهوف أن العناية الكافية حتى زمنه لم تُوجَّه إلى المصادر العربية التي تتحدّث عن انتقال التعليم مباشرة.

ويُرجع المستشرق بول كروس في مقالة "التراجم الأرسططالية المنسوبة لابن المقفّع" أن هذه النسبة كانت ناجمة عن خطأ وقع فيه المتأخّرون من المؤرّخين المسلمين.

أما في قسم "التراث والدين"، فتتكرّر موضوعة الموقف من علوم الأوائل على يد أجنتس غولدتسيهر، ولكن تحت عنوان "موقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل". ويرى أنه على الرغم ممّا لقيته هذه العلوم من عناية منذ القرن الثاني للهجرة في البيئات الدينية الإسلامية، فقد ظلّت دائماً طائفةٌ من أهل السنّة المتشدّدين تنظر في شيء من الشك وعدم الثقة والاطمئنان إلى المعنيّين بها، إلى درجة اتهامهم بالزندقة، لا لشيء إلا لأنهم في كتبهم يتّجهون اتجاهاً فلسفياً.

ومع ذلك لم تنجح الآراء المعادية للفلسفة، وبخاصة المنطق الذي ظلّ حتى أحدث العصور يُدرَّس مع العلوم الشرعية باعتباره علماً مساعداً. ويستدل من هذا على أن الاحتجاجات التي صدرت عن متعصّبين ومتزمّتين لم يكن لها أدنى تأثير في تشكيل الحقيقة الواقعية وتكوينها.

وتمضي بقية أقسام دراسات المستشرقين المنتقاة على هذا المنوال، فيتناول كرلو نلينو أصل تسمية المعتزلة، والتي تدلّ على موقفهم كمحايدين بين طرفي رجال الدين والسياسة، وتتناول مقالة ثانية لـ غولدتسيهر العناصر الأفلاطونية والغنوصية (العرفانية) في الأحاديث الموضوعة والمنسوبة إلى مقام النبوّة. وفي قسم معارضة التراث، يعود نلينو إلى بحث محاولة المسلمين إيجاد فلسفة شرقية هذه المرّة، اعتماداً على فكر ابن سينا ومكانته الحقيقية في تاريخ الفلسفة.

في ضوء هذه المقالات التي ألّف بينها وترجمها ووضع مقدّمتها بدوي، جاء موقفه السلبي من كل ما يمت إلى الحضارة الإسلامية بصلة. فهو يتّخذ منذ البداية من تمييز كارل هينرش بين الروح اليونانية والإسلامية أداة تحليل يصل بها إلى ما وصل إليه ذلك المستشرق. فهذه المقالات يرى فيها "أنحاء من البحث في الحياة الروحية الإسلامية" متباينة عند النظرة الأولى، إلّا أنها ترتفع إلى مشكلة واحدة هي مشكلة الحضارة الإسلامية؛ ماهيتها ومكانتها بين الحضارات العالمية، وما هو حظ حاملها من الطرافة والجدّة بالنسبة إلى غيرها.

ويقرّر بدوي: "نحن إزاء مسألة معيّنة.. وتلك هي تاريخ التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، إلا أن هذا التاريخ نفسه ليس شيئاً آخر غير روح الحضارة الإسلامية وهي تحاول على مرّ زمانها أن تُكوّن مقوّماتها، وتحدّد خصائصها ومميزاتها".

وبتمييزه بين "روح يونانية" ميّزتها الذاتية والاستقلالية، و"روح إسلامية" يرى أنها "تفني الذات في كلّ يعلو على الذوات كلها"، يصل إلى أن الفلسفة منافية لطبيعة الروح الإسلامية، ولهذا لم يُقدَّر لها أن تنتج فلسفة، بل لم تستطع أن تفهم روح الفلسفة اليونانية وإنما تعلّقت بظواهرها"، ولم تُنتج هذه الحضارة فنّاً "لأن الفن اليوناني والفنون عامّة بمعناها الصحيح، تقوم على الذاتية وتفترض الطرافة والتنوع... وسبب عدم إيجاد فن إسلامي هو أن الفن مناف لطبيعة الروح الإسلامية..

أمّا ما يسمّونه فناً إسلامياً فليس خليقاً بكلمة فن، وخير ما يُوصف به أنه "تزويق".. دفع إلى إيجاده فقدان الذاتية". وفي احتذاء حرفي لآراء هينرش، يقول بدوي إن الروح الإسلامية "لم تأخذ شيئاً ممّا يميز الروح اليونانية الحقيقية، وإنما استعادت ما أخذته منها الروح اليونانية" أي العناصر الشرقية.

الواضح من هذا الاحتذاء لما يقوله من كان يعدّهم "كبار المستشرقين" ولأحكامهم العجيبة أن بدوي لم يكن، فقط، يأخذ آراء المستشرقين "الجهلة .. الضحلين.. وغير الأمناء.. وناقصي المعلومات" كما سيصفهم في ما بعد، بل كان يحاول اختلاق أسباب تبرّر اتهاماتهم للحضارة العربية/ الإسلامية بأنها لم تُضف جديداً على الصعيد الحضاري "سواءً في ميادين السياسة وفن الحرب والاقتصاد أو العلم والفنون والصناعات"، كما ذهب صاحب مقالة "تراث الأوائل بين الشرق والغرب".

وجدير بالذكر أن عبد الرحمن بدوي لم يكن بدعاً في هذا الأمر، فقد طغت موجة أخذ آراء المستشرقين كمسلّمات على النصف الأول من القرن الماضي، لدى باحثين مثل طه حسين، وشعراء من أمثال أبي القاسم الشابي وآخرين، ولم تبدأ بالانحسار إلّا مع ظهور باحثين في النصف الثاني من القرن العشرين أكثر تمكّناً من ناحية معرفية ومنهجية، من أمثال المصري أنور عبد الملك، والفلسطيني إدوارد سعيد، واللبناني كمال الصليبي.

المساهمون