04 نوفمبر 2024
عبور المتوسط واجتياز حقب التاريخ
بحلول القرن السادس عشر، تقاسمت العالم الإسلامي ثلاث إمبراطوريات، العثمانية والصفوية والمنغولية، طبعت كل منها الإسلام بطابعها الخاص. اعتمدت، في أوجها، على إدارة بيروقراطية وعقلانية لمؤسسات متطورة نسبياً مع قدر من التجديد الثقافي. لكن ذلك اصطدم، في النهاية، بسقف الروح المحافظة والاقتصاد التقليدي، القائم على بقايا نظام الخراج الإسلامي، وفائض الإنتاج الزراعي، ليبدأ أفولها، فيما كانت أوروبا تبلور نموذجها الحضاري الفريد، المعتمد على إعادة استثمار مستمر لرؤوس الأموال، وتقدم صناعي وتقني، ومشروع ثقافي راديكالي.
ومنذ سبعينيات القرن التاسع عشر، ستبدو أوروبا ملهمة، ليس فقط لقادة سياسيين، مثل محمد علي في مصر. بل أيضا، لمفكرين مثل رفاعة الطهطاوي الذي امتدح الباريسيين الذين يحبون معرفة أصل الأشياء والبرهنة عليها، من دون أن يبقوا حبيسي التراث. وتحت تأثير هذا الإلهام، سيطرح عصر النهضة سؤاله المحوري: لماذا تقدمت أوروبا وتخلف المسلمون؟ ومعه أيضاً، سيبدأ الصراع بين العلمانية والدين، بين التراث والحداثة.
وعلى الرغم من قناعته بإمكانية التوفيق بين الإسلام والحداثة، استشعر جمال الدين الأفغاني في الغرب خطراً سياسياً، لكن راديكاليته انتهت به إلى المنفى. ومع تلميذه محمد عبده، سيبدو الإسلام جوهراً خالداً فوق التاريخ، متعالياً حتى على المؤمنين به، مذ وجد في أوروبا إسلاماً من دون مسلمين، وانتهى إلى أن مصر تحتاج إصلاحاً لا ثورة. في ذلك التاريخ، كانت أوروبا قد شكلت جزءاً من أرض المهجر، فارّون من الاستبداد والحروب الأهلية والفقر، عبروا البحر ليشكلوا لاحقاً ثقافة عربية متميزة.
أدرك محمد عبده أن الحداثة قادمة لا محالة، ومنعاً لتفتت المجتمع المصري، كان ربط
التطورات الدستورية والقانونية الحديثة بالمعايير الإسلامية التراثية، بالنسبة له، أمراً أساسياً. وفي مقابل الدولة العلمانية التي أنتجتها الحداثة الأوروبية، واستمدت مرجعيتها من ذاتها، بدأ التنظير لـ "الدولة المدنية" ذات المرجعية الإسلامية، في عشرينيات القرن الماضي، انطلقت الأصولية المعاصرة تحت وقع صدمتي الحداثة وإلغاء الخلافة، فرسم حسن البنا ست خطوات للتحولات المطلوبة لتحقيق "الإسلامية": بناء الفرد، ثم الأسرة، ثم المجتمع، فالدولة، فالخلافة، ثم الأستاذية على العالم.
في إيران، كانت أوروبا ملهمة أيضا، فرأى مصلحون علمانيون أن الدين الحق يكمن في زيادة المعرفة والتصنيع وسيادة القانون، وأن الدين سبب تخلف أمتهم، فالإسلام فُرض على الفرس لإخضاعهم. وفي القرن العشرين، تكرّست قناعة بأن سرّ نجاح أوروبا في الحكم الدستوري، وساند رجال دين ليبراليون الثورة الدستورية في 1906. لكن اعتراضات المحافظين من رجال الدين على علمانية المجلس الدستوري أدت، لاحقاً، إلى تعديله، وفرض وصاية دينية على قوانينه، كي لا تعارض الشريعة. وحين أراد رضا خان إقامة نظام جمهوري، أعلن آية الله مدرسي أنه غير إسلامي، وصادق المجلس الدستوري على تأسيس سلالة البهلوي. وحدها كانت تركيا الكمالية، على خلاف غيرها من المراكز الإسلامية التقليدية، تسير بعلمانيتها الصارمة نحو كيان سياسي ديمقراطي وحداثي.
لم تتشكل الدولة الوطنية انطلاقاً من منطق تطورها الداخلي، وزرعت حدود سايكس بيكو بذور
المشكلة الطائفية التي كانت تهديداً مستمراً للسلم الأهلي، وراحت تنضج مع الفشل في تحقيق المواطنة والاندماج والاكتفاء بإعادة إنتاج البنى التقليدية وإضفاء مظاهر حداثية عليها. وحين بدت الفرصة مواتية في التسعينيات، لدمج الإسلامويين في النظام السياسي القائم، لم يكن بإمكان نظام غير ديمقراطي أن يوفر إسلاميين ديمقراطيين. وبقيت "الإسلامية" مصطلحاً فضفاضاً بحاجة إلى إعادة تعريف ومراجعة، بعد كل مرحلة من الفشل.
في غياب مشروع ثقافي، سادت المشاريع الأيديولوجية. وبعد فشل مشاريع الوحدة، جرى العمل على تدعيم الدولة الوطنية، "تقليدية" و"غير تقليدية"، لصالح النخب الحاكمة وشبكات المصالح المتحالفة معها. وفي غياب تكامل عربي، غاب مجال حيوي سياثقافي اقتصادي، يمكنه الصمود في عولمة ما بعد الحداثة، في وجه التكتلات الثقافية والاقتصادية الكبرى. وبدأت الكيانات الصغرى تتفكك، بتأثير العولمة، وبتوجيه من عواملها الذاتية. أما الشعوب، فبقيت دائماً مجرد رعايا، أدوات لممارسة الحكم وإشباع النهم بالسلطة، واستمرت هجرة العقول والكفاءات، ومن دون توفر أي صيغ حقوقية، أو مدنية أو اجتماعية، لمواطنة حقيقية. بدا المستقبل غامضا، ليبني كل فرد مدينته الفاضلة في داخله، ويتدبر أمر خلاصه الفردي على حساب الخلاص الجماعي، وأما من عجز منهم، كانت السلفية الجهادية حاضرة لتقديم جوازات العبور إلى الآخرة.
لم تكن الحداثة الأوروبية مجرد انعكاس لتحولات الاقتصاد الرأسمالي، بل لعب المشروع الثقافي الغربي دوراً محورياً في صياغة التحولات التاريخية السياسية لأوروبا، والذي تبلور انطلاقاً من جدل الفكر والواقع، بعد معاناة معرفية، وصلا وقطعاً، مع الإرث الفلسفي اليوناني، وكان دائماً ضمانة لنجاح مشروع الحداثة في كل لحظةٍ، بدا فيها التاريخ الأوروبي ينحرف عن قيمه ومساره الصحيح، فاستطاع إنقاذ قيم فلسفة الأنوار، بعد انهيار البنى السياسية للثورة الفرنسية، وأن يضخ الحياة في قارة أنهكتها حربان عالميتان مدمرتان.
اعتقدت اليوتوبيا الأفلاطونية أنه لا يمكن بناء مجتمع مدني/فاضل من دون تحقيق العدالة، ممثلة بسيادة الإنسان على نفسه، وسيادة العقل على المجتمع. حيث الحرية نتيجة لهذه العدالة. وسيكون سؤال السيادة محورياً في المشروع الثقافي الغربي، وعليه، تتأسس فكرة المواطنة. فأحلت فلسفة القرن الثامن عشر الحقوق الطبيعية مكان سيادة اللاهوت المطلقة، وبرزت
المواطنة المدنية التي تكفل للإنسان حقوقه في العمل والاعتقاد والتملك، وتجسّدت هذه الحقوق المجردة في القرن التاسع عشر عبر المواطنة السياسية، فأصبح لكل فرد حق المشاركة السياسية انتخاباً وترشيحاً، وحق التصويت العام. وفي القرن العشرين، توّج النمطان السابقان بالمواطنة الاجتماعية التي جاءت ثمرة نضال مثقفي اليسار ضمن المشروع الثقافي الأوروبي العام، ونتيجة لرغبة الدولة في حماية مجتمعاتها ضد المد الشيوعي، حيث كان عليها التحول إلى دولة عناية، مهمتها إيجاد ظروف حياة إنسانية مناسبة لجميع مواطنيها، بتوفير حقوق اجتماعية تمثلت في التعليم والعمل والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي بأشكاله كافة.
وبينما تفكك المعسكر الشيوعي، حين تأكد أن أي عدالة اجتماعية منشودة ستكون يتيمة من دون حقوق مدنية وسياسية، بدت دولة العناية الأوروبية إنقاذاً للمدينة الفاضلة من استحالتها التاريخية، من دون أن تشكل بالضرورة نهاية لتاريخها. وللوصول إلى دولة الوفرة والرفاه، أنجزت أوروبا تحقيباً تاريخياً دفعت ثمنه طوال قرون ثلاثة. ولا شك في أن شعوب المستعمرات التقليدية، ولاسيما العرب منهم، دفعوا أثماناً باهظة لحداثةٍ لم يظفروا بها، لكن القضية، هنا، لا يمكن اختزالها في الناحية الأخلاقية فقط، فهي أيضا قضية استحقاق تاريخي.
مع ذلك، يعود المشروع الثقافي الغربي لينقذ أوروبا العناية من مركزويتها، فيدفعها إلى الانتصار لقيمها في وجه عنصرييها، دولاً وأفراداً، لتبدو أوروبا اليوم أكثر إلهاما من أي يوم مضى. وسواء أدرك أولئك المهاجرون القادمون إليها، الفارّون من جحيم أوطانهم، كنه دولة العناية، أم اكتفوا بمظاهرها أو بمسموعياتها، فإنهم يصرّون على عبور البحر، ليس هرباً من اليأس فقط، بل أيضا، طمعاً في المدينة الفاضلة. يترك بعضهم وراءه "ربيعاً"، غرق في الدماء والفوضى الطائفية، قبل غرق كثيرين منهم في البحر، ويدرك آخرون حجم معاناة أن تبدأ من جديد. لكنهم، أول مرة ربما، يشعرون أن نتائج معاناتهم سوف تعادل كلفتها أو تفوقها. جميعهم يعبرون المتوسط إلى الحداثة، بعد أن يئسوا من وصولها إلى أوطانهم، فيجتازون حقباً من التاريخ، تفصلهم عن دولة العناية، تاركين جغرافيا الماضي للعناية الإلهية.
ومنذ سبعينيات القرن التاسع عشر، ستبدو أوروبا ملهمة، ليس فقط لقادة سياسيين، مثل محمد علي في مصر. بل أيضا، لمفكرين مثل رفاعة الطهطاوي الذي امتدح الباريسيين الذين يحبون معرفة أصل الأشياء والبرهنة عليها، من دون أن يبقوا حبيسي التراث. وتحت تأثير هذا الإلهام، سيطرح عصر النهضة سؤاله المحوري: لماذا تقدمت أوروبا وتخلف المسلمون؟ ومعه أيضاً، سيبدأ الصراع بين العلمانية والدين، بين التراث والحداثة.
وعلى الرغم من قناعته بإمكانية التوفيق بين الإسلام والحداثة، استشعر جمال الدين الأفغاني في الغرب خطراً سياسياً، لكن راديكاليته انتهت به إلى المنفى. ومع تلميذه محمد عبده، سيبدو الإسلام جوهراً خالداً فوق التاريخ، متعالياً حتى على المؤمنين به، مذ وجد في أوروبا إسلاماً من دون مسلمين، وانتهى إلى أن مصر تحتاج إصلاحاً لا ثورة. في ذلك التاريخ، كانت أوروبا قد شكلت جزءاً من أرض المهجر، فارّون من الاستبداد والحروب الأهلية والفقر، عبروا البحر ليشكلوا لاحقاً ثقافة عربية متميزة.
أدرك محمد عبده أن الحداثة قادمة لا محالة، ومنعاً لتفتت المجتمع المصري، كان ربط
في إيران، كانت أوروبا ملهمة أيضا، فرأى مصلحون علمانيون أن الدين الحق يكمن في زيادة المعرفة والتصنيع وسيادة القانون، وأن الدين سبب تخلف أمتهم، فالإسلام فُرض على الفرس لإخضاعهم. وفي القرن العشرين، تكرّست قناعة بأن سرّ نجاح أوروبا في الحكم الدستوري، وساند رجال دين ليبراليون الثورة الدستورية في 1906. لكن اعتراضات المحافظين من رجال الدين على علمانية المجلس الدستوري أدت، لاحقاً، إلى تعديله، وفرض وصاية دينية على قوانينه، كي لا تعارض الشريعة. وحين أراد رضا خان إقامة نظام جمهوري، أعلن آية الله مدرسي أنه غير إسلامي، وصادق المجلس الدستوري على تأسيس سلالة البهلوي. وحدها كانت تركيا الكمالية، على خلاف غيرها من المراكز الإسلامية التقليدية، تسير بعلمانيتها الصارمة نحو كيان سياسي ديمقراطي وحداثي.
لم تتشكل الدولة الوطنية انطلاقاً من منطق تطورها الداخلي، وزرعت حدود سايكس بيكو بذور
في غياب مشروع ثقافي، سادت المشاريع الأيديولوجية. وبعد فشل مشاريع الوحدة، جرى العمل على تدعيم الدولة الوطنية، "تقليدية" و"غير تقليدية"، لصالح النخب الحاكمة وشبكات المصالح المتحالفة معها. وفي غياب تكامل عربي، غاب مجال حيوي سياثقافي اقتصادي، يمكنه الصمود في عولمة ما بعد الحداثة، في وجه التكتلات الثقافية والاقتصادية الكبرى. وبدأت الكيانات الصغرى تتفكك، بتأثير العولمة، وبتوجيه من عواملها الذاتية. أما الشعوب، فبقيت دائماً مجرد رعايا، أدوات لممارسة الحكم وإشباع النهم بالسلطة، واستمرت هجرة العقول والكفاءات، ومن دون توفر أي صيغ حقوقية، أو مدنية أو اجتماعية، لمواطنة حقيقية. بدا المستقبل غامضا، ليبني كل فرد مدينته الفاضلة في داخله، ويتدبر أمر خلاصه الفردي على حساب الخلاص الجماعي، وأما من عجز منهم، كانت السلفية الجهادية حاضرة لتقديم جوازات العبور إلى الآخرة.
لم تكن الحداثة الأوروبية مجرد انعكاس لتحولات الاقتصاد الرأسمالي، بل لعب المشروع الثقافي الغربي دوراً محورياً في صياغة التحولات التاريخية السياسية لأوروبا، والذي تبلور انطلاقاً من جدل الفكر والواقع، بعد معاناة معرفية، وصلا وقطعاً، مع الإرث الفلسفي اليوناني، وكان دائماً ضمانة لنجاح مشروع الحداثة في كل لحظةٍ، بدا فيها التاريخ الأوروبي ينحرف عن قيمه ومساره الصحيح، فاستطاع إنقاذ قيم فلسفة الأنوار، بعد انهيار البنى السياسية للثورة الفرنسية، وأن يضخ الحياة في قارة أنهكتها حربان عالميتان مدمرتان.
اعتقدت اليوتوبيا الأفلاطونية أنه لا يمكن بناء مجتمع مدني/فاضل من دون تحقيق العدالة، ممثلة بسيادة الإنسان على نفسه، وسيادة العقل على المجتمع. حيث الحرية نتيجة لهذه العدالة. وسيكون سؤال السيادة محورياً في المشروع الثقافي الغربي، وعليه، تتأسس فكرة المواطنة. فأحلت فلسفة القرن الثامن عشر الحقوق الطبيعية مكان سيادة اللاهوت المطلقة، وبرزت
وبينما تفكك المعسكر الشيوعي، حين تأكد أن أي عدالة اجتماعية منشودة ستكون يتيمة من دون حقوق مدنية وسياسية، بدت دولة العناية الأوروبية إنقاذاً للمدينة الفاضلة من استحالتها التاريخية، من دون أن تشكل بالضرورة نهاية لتاريخها. وللوصول إلى دولة الوفرة والرفاه، أنجزت أوروبا تحقيباً تاريخياً دفعت ثمنه طوال قرون ثلاثة. ولا شك في أن شعوب المستعمرات التقليدية، ولاسيما العرب منهم، دفعوا أثماناً باهظة لحداثةٍ لم يظفروا بها، لكن القضية، هنا، لا يمكن اختزالها في الناحية الأخلاقية فقط، فهي أيضا قضية استحقاق تاريخي.
مع ذلك، يعود المشروع الثقافي الغربي لينقذ أوروبا العناية من مركزويتها، فيدفعها إلى الانتصار لقيمها في وجه عنصرييها، دولاً وأفراداً، لتبدو أوروبا اليوم أكثر إلهاما من أي يوم مضى. وسواء أدرك أولئك المهاجرون القادمون إليها، الفارّون من جحيم أوطانهم، كنه دولة العناية، أم اكتفوا بمظاهرها أو بمسموعياتها، فإنهم يصرّون على عبور البحر، ليس هرباً من اليأس فقط، بل أيضا، طمعاً في المدينة الفاضلة. يترك بعضهم وراءه "ربيعاً"، غرق في الدماء والفوضى الطائفية، قبل غرق كثيرين منهم في البحر، ويدرك آخرون حجم معاناة أن تبدأ من جديد. لكنهم، أول مرة ربما، يشعرون أن نتائج معاناتهم سوف تعادل كلفتها أو تفوقها. جميعهم يعبرون المتوسط إلى الحداثة، بعد أن يئسوا من وصولها إلى أوطانهم، فيجتازون حقباً من التاريخ، تفصلهم عن دولة العناية، تاركين جغرافيا الماضي للعناية الإلهية.