24 أكتوبر 2024
عدالة القضايا ليست ضمانة لانتصارها
يعلمنا التاريخ هذا الدرس القاسي، المرة بعد الأخرى، عدالة القضايا مسألة مهمة، لكن أهميتها لا تمنحها الحوامل التاريخية التي تجعلها قادرة على الانتصار على الظلم وبناء عالم أفضل. فنحن لا نعرف من التاريخ إلا ما كتبه المنتصرون لمسارهم، بوصفه المصير الحتمي للتاريخ الذي يجسدونه. لكن، عندما نعيد قراءة التاريخ، بقليل من الموضوعية، نرى أن الظلم والاستبداد والاستغلال والقهر شكل الأساس المكون للتاريخ البشري الحقيقي، هذا الظلم الذي حاولت كل السلطات الحديثة والغابرة إخفاء وجهه القبيح بمساحيق تجميلية، لكن هذا الإخفاء جعله، في أحيان كثيرة، يبدو أكثر قبحا.
العدالة حلم البشرية الذي لا ينضب، والمسار للوصول إليها ما زال طويلا، فحجم الظلم المنتشر في العالم اليوم أكبر مما يمكن احتماله. لكن كل الذين يملكون القوة لا أحد منهم مشغول فعلا في تحقيق العدالة وإنصاف المظلومين، بل على العكس هم يشكلون جزءاً من آليات الظلم التي تطحن العالم في كل مكان. تقول الوقائع القائمة اليوم الكثير عن الظلم والوحشية التي تحاصرنا من كل مكان، تلك الوحشية التي ينقل الإعلام اليوم جزءاً منها، وعلى الرغم من كل العلانية التي نعيشها، بفضل الإعلام الحديث، أعتقد أن المخفي أعظم، وما نراه من ظلم ووحشية ما هو سوى قمة جبل الظلم والوحشية الذي يعيشه عالم اليوم.
خطر لي سؤال التاريخ والظلم والعدالة، مع موجات الموت التي تجتاح المتوسط، ليس بوصفها من عوارض الحروب والنزاعات في العالم التي تفرز مشكلة لاجئين بأوضاعهم المأسوية. لكن، بوصف ما يجري في البحر المتوسط تكثيفاً للظلم المتعدد المستويات، فهو ليس "قصة موت معلن" أمام عيون العالم فحسب، وهذا وحده يجعلني شخصياً أشعر بالخزي والعار، لكنه أيضا إعلان لانعدام الحس الأخلاقي والإنساني عند عالم يدعي الإنسانية طوال الوقت، من دون أن يرف له جفن.
ما يجري في البحر المتوسط ليس قصة لجوء فاشلة، فهو، في الحقيقة، تلخيص للمأساة البشرية، على الأقل، في قارتي آسيا وإفريقيا. يغامر ضحاياها بكل شيء، بما في ذلك حياتهم للوصول إلى مكان يجدون فيه الأمان والحد الأدنى من الحياة الكريمة. ما يغرق في البحر المتوسط ليس ضحايا الحروب الهائمين على وجوههم للنجاة وتاريخهم الشخصي، بل ما يغرق هو تاريخ بلدان وقيم مجتمعية، وادعاءات إنسانية عالمية وغربية. المأساة في البحر المتوسط هي التكثيف التاريخي لمصائر البلدان التي يأتي اللاجئون منها، تاريخ أفغانستان الحرب الدائمة والصومال المهدوم والعراق المنهوب وغيرها، وأخيرا سورية المدمرة.
وهذه البلدان وغيرها لا تملك تواريخ محلية فحسب، وإذا كان التاريخ المحلي جزءاً من هذا الخراب، فإن تقاطعات مصالح قوى إقليمية ودولية تواطأت من أجل تكريس الخراب في هذه البلدان. والذي يبدو تاريخاً للفشل المحلي ما هو سوى تاريخ للتدخل الخارجي الذي يدفع باتجاهات تدميرية، وعندما تنتهي الحاجة إليه، يتم رميه جانباً ليتعفن. هذا ما حصل في العراق وأفغانستان، وغيرها من الدول، فلم تكن أفغانستان بالنسبة للغرب سوى المكان الذي يجب أن يُهزم فيه الاتحاد السوفييتي، وعندما هُزم، تُرك البلد ليتعفن. ووضع العراق ليس أفضل حالاً، كان مطلوباً من العراق أن يقف في وجه إيران، فخاض حرباً مجانية ثماني سنوات، وعندما انتهت المهمة ترك لينهار، وعندما انهار ترك ليتعفن، وعد المستقبل الأميركي لعراق ما بعد صدام حسين وصفة للخراب بامتياز.
هل يتحمل الغرب وحده مسؤولية الخراب؟ بالتأكيد، لا. فلا يمكن التلاعب بمصائر البلدان، من دون أن تعيش هذه البلدان حالة "قابلية" التلاعب بها. والأساس الأول لهذا التلاعب هو التكوين السلطوي الاستبدادي الاستبعادي الذي يستند في بناء مراكز القوة في السلطة إلى فئات اجتماعية وطائفية وعرقية ضيقة، ما يجعل فكرة "المواطن" فكرة في غاية الشكلية، وينتج في الواقع هيكلة قوة تتمحور حول رأس السلطة، هيكلية سياسية واقتصادية، لا يمكن أن ينتمي إليها المواطن، من دون أن يكون جزءاً من بطانة السلطة والمطبلين لها.
يقول تاريخ المنطقة، بوصفه تعبيراً عن تداخل المحلي والإقليمي والدولي، إن القضايا العادلة كانت ضحية هذه التقاطعات وصراعاتها ومصالحها. وقد كانت القضايا الوطنية والقضايا المحلية على السواء ضحية هذه التقاطعات. ففي ما تبقى من قضايا وطنية في العالم، كانت فلسطين والفلسطينيون وكردستان والأكراد ضحايا هذه التقاطعات، فلم يملك الشعبان القوة اللازمة لتحقيق الحلم الطبيعي بوطن مستقل. وعلى مستوى المطالب المحلية في الحرية والديمقراطية، لم تكن النتيجة أفضل، وهذا ما نراه في دول الربيع العربي الذي انطلق واعداً في إنهاء زمن الاستبداد والانتماء إلى العالم الحديث في مطلب الحرية، إلا أن عدم وجود القوة الكافية في المجتمعات الثائرة لإطاحة الاستبداد، جعل الربيع العربي يستعصي على الوصول إلى أهدافه، لأسباب يصعب إيرادها في هذه العجالة. لكن، يمكن القول إن افتقاد هذه الثورات إلى أدوات القوة اللازمة من أهم الأسباب التي أوصلت الربيع العربي إلى الحالة التي نعيشها اليوم، وهو الدرس الذي يكرره التاريخ، أن عدالة القضايا ليست كافية لانتصارها. لذلك، على أصحاب القضية أن يملكوا القوة اللازمة للحصول على حقهم في العدالة، فالتاريخ يقول إن العدالة لا تمنح، إنما يتم الحصول عليها بالقوة اللازمة لبناء مجتمع عادل.
على الرغم من كل الصعاب التي تعترض البشر، فإن حلم العدالة والحرية سيبقى أقوى من قسوة الظروف، وتوق البشر إلى عالم أفضل لن يردعه تاريخ غير عادل.
العدالة حلم البشرية الذي لا ينضب، والمسار للوصول إليها ما زال طويلا، فحجم الظلم المنتشر في العالم اليوم أكبر مما يمكن احتماله. لكن كل الذين يملكون القوة لا أحد منهم مشغول فعلا في تحقيق العدالة وإنصاف المظلومين، بل على العكس هم يشكلون جزءاً من آليات الظلم التي تطحن العالم في كل مكان. تقول الوقائع القائمة اليوم الكثير عن الظلم والوحشية التي تحاصرنا من كل مكان، تلك الوحشية التي ينقل الإعلام اليوم جزءاً منها، وعلى الرغم من كل العلانية التي نعيشها، بفضل الإعلام الحديث، أعتقد أن المخفي أعظم، وما نراه من ظلم ووحشية ما هو سوى قمة جبل الظلم والوحشية الذي يعيشه عالم اليوم.
خطر لي سؤال التاريخ والظلم والعدالة، مع موجات الموت التي تجتاح المتوسط، ليس بوصفها من عوارض الحروب والنزاعات في العالم التي تفرز مشكلة لاجئين بأوضاعهم المأسوية. لكن، بوصف ما يجري في البحر المتوسط تكثيفاً للظلم المتعدد المستويات، فهو ليس "قصة موت معلن" أمام عيون العالم فحسب، وهذا وحده يجعلني شخصياً أشعر بالخزي والعار، لكنه أيضا إعلان لانعدام الحس الأخلاقي والإنساني عند عالم يدعي الإنسانية طوال الوقت، من دون أن يرف له جفن.
ما يجري في البحر المتوسط ليس قصة لجوء فاشلة، فهو، في الحقيقة، تلخيص للمأساة البشرية، على الأقل، في قارتي آسيا وإفريقيا. يغامر ضحاياها بكل شيء، بما في ذلك حياتهم للوصول إلى مكان يجدون فيه الأمان والحد الأدنى من الحياة الكريمة. ما يغرق في البحر المتوسط ليس ضحايا الحروب الهائمين على وجوههم للنجاة وتاريخهم الشخصي، بل ما يغرق هو تاريخ بلدان وقيم مجتمعية، وادعاءات إنسانية عالمية وغربية. المأساة في البحر المتوسط هي التكثيف التاريخي لمصائر البلدان التي يأتي اللاجئون منها، تاريخ أفغانستان الحرب الدائمة والصومال المهدوم والعراق المنهوب وغيرها، وأخيرا سورية المدمرة.
وهذه البلدان وغيرها لا تملك تواريخ محلية فحسب، وإذا كان التاريخ المحلي جزءاً من هذا الخراب، فإن تقاطعات مصالح قوى إقليمية ودولية تواطأت من أجل تكريس الخراب في هذه البلدان. والذي يبدو تاريخاً للفشل المحلي ما هو سوى تاريخ للتدخل الخارجي الذي يدفع باتجاهات تدميرية، وعندما تنتهي الحاجة إليه، يتم رميه جانباً ليتعفن. هذا ما حصل في العراق وأفغانستان، وغيرها من الدول، فلم تكن أفغانستان بالنسبة للغرب سوى المكان الذي يجب أن يُهزم فيه الاتحاد السوفييتي، وعندما هُزم، تُرك البلد ليتعفن. ووضع العراق ليس أفضل حالاً، كان مطلوباً من العراق أن يقف في وجه إيران، فخاض حرباً مجانية ثماني سنوات، وعندما انتهت المهمة ترك لينهار، وعندما انهار ترك ليتعفن، وعد المستقبل الأميركي لعراق ما بعد صدام حسين وصفة للخراب بامتياز.
هل يتحمل الغرب وحده مسؤولية الخراب؟ بالتأكيد، لا. فلا يمكن التلاعب بمصائر البلدان، من دون أن تعيش هذه البلدان حالة "قابلية" التلاعب بها. والأساس الأول لهذا التلاعب هو التكوين السلطوي الاستبدادي الاستبعادي الذي يستند في بناء مراكز القوة في السلطة إلى فئات اجتماعية وطائفية وعرقية ضيقة، ما يجعل فكرة "المواطن" فكرة في غاية الشكلية، وينتج في الواقع هيكلة قوة تتمحور حول رأس السلطة، هيكلية سياسية واقتصادية، لا يمكن أن ينتمي إليها المواطن، من دون أن يكون جزءاً من بطانة السلطة والمطبلين لها.
يقول تاريخ المنطقة، بوصفه تعبيراً عن تداخل المحلي والإقليمي والدولي، إن القضايا العادلة كانت ضحية هذه التقاطعات وصراعاتها ومصالحها. وقد كانت القضايا الوطنية والقضايا المحلية على السواء ضحية هذه التقاطعات. ففي ما تبقى من قضايا وطنية في العالم، كانت فلسطين والفلسطينيون وكردستان والأكراد ضحايا هذه التقاطعات، فلم يملك الشعبان القوة اللازمة لتحقيق الحلم الطبيعي بوطن مستقل. وعلى مستوى المطالب المحلية في الحرية والديمقراطية، لم تكن النتيجة أفضل، وهذا ما نراه في دول الربيع العربي الذي انطلق واعداً في إنهاء زمن الاستبداد والانتماء إلى العالم الحديث في مطلب الحرية، إلا أن عدم وجود القوة الكافية في المجتمعات الثائرة لإطاحة الاستبداد، جعل الربيع العربي يستعصي على الوصول إلى أهدافه، لأسباب يصعب إيرادها في هذه العجالة. لكن، يمكن القول إن افتقاد هذه الثورات إلى أدوات القوة اللازمة من أهم الأسباب التي أوصلت الربيع العربي إلى الحالة التي نعيشها اليوم، وهو الدرس الذي يكرره التاريخ، أن عدالة القضايا ليست كافية لانتصارها. لذلك، على أصحاب القضية أن يملكوا القوة اللازمة للحصول على حقهم في العدالة، فالتاريخ يقول إن العدالة لا تمنح، إنما يتم الحصول عليها بالقوة اللازمة لبناء مجتمع عادل.
على الرغم من كل الصعاب التي تعترض البشر، فإن حلم العدالة والحرية سيبقى أقوى من قسوة الظروف، وتوق البشر إلى عالم أفضل لن يردعه تاريخ غير عادل.