لا شكّ في أنّ العيش في الريف أقلّ ضرراً على الإنسان من العيش في المدينة حيث نمط الحياة السريع والضغوطات والضوضاء. على الرغم من أنّ الأمر غير متاح للجميع، فإنّ ثمّة عراقيين بدّلوا مكان إقامتهم
الانتقال من المدينة إلى الريف حالة بدأ يألفها المجتمع العراقي، بعدما فرضتها ظروف عدّة، أبرزها البحث عن مسكن غير مكلف، وتأسيس مشاريع متاحة في البيئة الريفية، فضلاً عن رغبة كثيرين في العيش بعيداً عن الضجيج. والأمر لم يكن ليبدو لافتاً في العراق لولا تناول الجميع "ترييف المدن" في السابق، على خلفية نزوح سكان الأرياف إلى المدن بحثاً عن العمل، وهو ما زال مستمراً اليوم إلى جانب الرحلة المعاكسة.
في الدوائر الحكومية في العراق، يكثر الحديث بين الذين يقتربون من سنّ التقاعد عن خططهم المستقبلية. ويخبر هيثم رحيم "العربي الجديد" بأنّ "زملاء كثيرين ينصحونني بالهجرة إلى الريف وبدء حياة جديدة فيه، ولا سيّما أنّ مسؤولياتي لم تعد كبيرة بعد زواج أبنائي وبناتي. يضيف: "صرت على قناعة تامة بأنّ الاختيار الأفضل هو اصطحاب زوجتي لنعيش حياتنا في الريف. لا بدّ لي من الراحة بعد أعوام طويلة من العمل والتعب، فأنا في حاجة ماسة إلى الهدوء، جوّ خالٍ من الضوضاء".
وتمتُّع العراق بوفرة مائية كان وراء البيئة الريفية التي يمثّل مجتمعها ثلثَي عدد سكان البلاد، لكنّ تدهور الواقع الزراعي بعد عام 2003 دفع نسبة كبيرة من سكان الريف إلى هجرة الزراعة، الأمر الذي سبّب تقلّص المساحات المزروعة 10 في المائة، مقارنةً بالفترة التي سبقت الغزو الأميركي للبلاد. واليوم، يتحدّث سكان أرياف في مناطق مختلفة من العراق عن انتعاش الريف مرّة أخرى، ومن أسبابه إقبال عائلات من المدن للاستقرار فيه.
زياد خليفة يملك أرضاً زراعية شاسعة في جنوب محافظة صلاح الدين، شمالي البلاد، لكنّها تحوّلت إلى أرض بور بعد التوقّف عن زراعتها نتيجة ارتفاع تكلفة الزراعة مقارنةً بأسعار المحاصيل. يقول لـ"العربي الجديد" إنّه وجد "فرصة جيّدة لبيع أرضي بعدما تلقيت عروضاً عدّة. وبالفعل، تشارك أربعة أشخاص من غير المزارعين في شراء أرضي، وهم يسعون إلى بناء بيوت لهم حتى يستقروا فيها، ويأملون استغلالها مستقبلاً في مشاريع زراعية بحسب ما علمت منهم". يضيف خليفة أنّ "المالكين الجدد يرغبون في الاستقرار بمنطقة ريفية، وقد اختاروا أرضي لأنّها محاطة بأراضٍ زراعية وقرى، وهذا ما كانوا يبحثون عنه تحديداً".
من جهته، يشير ناجي العبودي الذي يعمل في مجال بيع العقارات والأراضي الزراعية وشرائها، إلى أنّه "بعد تخلّي عدد كبير من الفلاحين عن الزراعة، بسبب ما يواجهونه من مشاكل تمنعهم من الاستمرار، فإنّهم يعرضون أراضيهم للبيع، علماً أنّ أسعار عدد كبير منها تراجع. وهذا ما يُعَدّ فرصة لمواطنين من سكان المدن حتى يحققوا مشاريعهم أو أحلامهم". يضيف العبودي لـ"العربي الجديد" أنّ "90 في المائة من الذين يشترون الأراضي الزراعية في الوقت الحالي هم من غير المزارعين ومن سكان المدن. فثمّة ازدياد في عدد الذين يبحثون عن الهدوء والجوّ النقي، ولا سيّما ممّن تجاوزوا 45 عاماً. هؤلاء يستغلون جزءاً من الأرض لزراعتها بأنواع مختلفة من الفاكهة والنخيل، بالإضافة إلى بناء بيت صغير بهدف الاستمتاع، فيما تُترك المساحة الأخرى بلا استثمار، للمستقبل. ولا بدّ من أن تعود الزراعة إلى سابق عهدها وتُستثمر تلك الأراضي في الزراعة". ويتابع العبودي، قائلاً إنّ "ثمّة أشخاصاً يستغلون الأراضي بعد شرائها لبداية مرحلة جديدة من حياتهم، فيبنون فيها مسكناً وينشئون مصالح من قبيل المناحل أو أحواض لتربية السمك أو أقنان الدواجن أو مزارع لتربية المواشي، وما إلى ذلك من مشاريع متاحة في هذه المناطق".
أمّا جمال وقاص، فقد تشارك مع ثلاثة من زملائه السابقين في "مشروع العمر" في أحد الأرياف. يقول لـ"العربي الجديد" إنّ "ثمّة شباباً متخرّجين من كليات الزراعة يستغلون خبراتهم العلمية التي حصلوا عليها في دراستهم الأكاديمية لتنفيذها على أرض الواقع، من خلال العمل في الريف". وحتى يتمكّن وقّاص وشركاؤه من متابعة مشروعهم مباشرةً، اتّخذوا قرارهم بالسكن مع عائلاتهم في بيوت صغيرة بنوها في مزرعتهم، وقد هجروا العاصمة بغداد. يضيف وقاص: "جمعنا ما لدينا واقترضنا من أهالينا ومعارفنا وانطلقنا قبل عام ونصف عام في مشروعنا. فاشترينا أرضاً زراعية مهجورة في شرق مدينة ديالى (شرقي البلاد) تبلغ مساحتها خمسين دونماً (الدونم 2500 متر مربع). ونظراً إلى بعدها عن أيّ مصدر للمياه، حفرنا بئراً". ويشرح وقاص أنّ "مشروعنا متعدّد الاختصاصات، فهو يتضمّن مشتلاً للأزهار وأشجار الفاكهة ونباتات الزينة، ومنحلاً، ومزرعة أسماك، وأحواضاً لتربية أسماك الزينة". ويتابع وقاص: "نستغل خبراتنا ومعرفتنا بكلّ جديد في مجال علوم الزراعة المختلفة وتربية الحيوانات، التي صارت تعتمد على برامج توفّر في الإنفاق وتعزز الوفرة الإنتاجية. ومشروعنا اليوم يسير وفق ما خططنا له ونتابعه على مدار الساعة".
في سياق متصل، "الحياة في الريف" صارت نصيحة يقدّمها أطباء مختلفون لمرضاهم، نظراً إلى ما توفّره من حسنات. ومن بين هؤلاء الأطباء، متخصصون في أمراض القلب، وآخرون في الأمراض العصبية، وكذلك متخصصون في الأمراض النفسية. ويؤكد الطبيب المتخصص في الأمراض النفسية والعقلية محمد العبيدي لـ"العربي الجديد"، أنّه ينصح بعض مرضاه بالسفر والتجوال في الأرياف والمبيت فيها، أو اتخاذها سكناً من قبل من يستطيع ذلك. يضيف أنّ "الطبيعة والحياة غير المتكلفة، بالإضافة إلى الفضاء المفتوح الممتد كلّها، تساعد على تهدئة الأعصاب وتحسن أداء القلب والدماغ"، مشيراً إلى أنّ "هذا العلاج الذي أسميه الهروب إلى الطبيعة، لا ينفع فقط المصابين بأمراض نفسية أو قلبية، بل الجميع".