وكان من المفترض أن تمرّ ليبيا بمرحلة انتقالية تنتهي بوضع دستور يدخل البلاد مرحلة استقرار دائم، لكن مسيرة إعداد الدستور اصطدمت منذ البداية بطيفٍ واسع من البرلمانيين داخل مجلس النواب، موالٍ للواء المتقاعد خليفة حفتر. إذ تمكنوا من إطالة أمد إعداد مشروع الدستور، في محاولةٍ لإفساح المجال لمدة زمنية أطول، أمام مساعي حليفهم العسكري حفتر لتحقيق طموحه، لكن مفاجآت اعترضتهم في تلك الأثناء، منها نهاية المدة القانونية لمجلس النواب التي مدّدها الاتفاق السياسي، ومؤخراً أحكام القضاء الليبي، التي أقرّت بصحة إحالة هيئة صياغة الدستور لمشروع الدستور لمجلس النواب في يوليو/تموز من العام الماضي، بعدما حاولت المجموعة النيابية ذاتها عرقلته قانونياً.
وبدا جلياً أن البعثة الأممية، عندما أعلنت في سبتمبر/أيلول الماضي عزمها دعوة الأطراف الليبية إلى انتخاباتٍ لإنهاء الصراع والانقسام الحالي، كانت تسعى إلى فضح المعرقلين، التي انتهت بإظهار المجموعة النيابية التي تدعم حفتر كمعرقلٍ أول ووحيد لأي تسوية في البلاد، وبالتالي انكشاف مساعيها في دعم مشروع عسكري يرأسه حفتر.
ويتمثل جديد الساحة الليبية هذه الأيام، في تصريحات داعية إلى البدء في طرح الدستور للاستفتاء عليه من الشعب، بينما تعالت أصوات الرافضين في مجلس النواب لهذا الطرح، إلى حدّ التهديد بتقسيم البلاد وإعلان الفدرالية في برقة بأفضل الأحوال، كما جاء على لسان النائب عيسى العريبي، المعروف بولائه الشديد لحفتر.
في المقابل، يسعى المجلس الأعلى للدولة، الطرف المقابل لمجلس النواب، إلى إصدار قانون للاستفتاء، رافضاً أن ينفرد مجلس النواب بقرار التشريع في ليبيا.
وبحسب رسالة اطلع عليها "العربي الجديد"، فقد أحال مدير مكتب النائب الثاني لرئيس مجلس الدولة، عبد الله قادربوه، مشروع قانون الاستفتاء، إلى مدير مكتب رئيس مجلس النواب، علماً أن المشروع تمّ التصويت عليه في جلسة سابقة لمجلس الدولة في السادس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وبينت الرسالة أن الغرض منها إطلاع المجلس على مشروع قانون الاستفتاء لمناقشته واعتماده، استكمالاً لاستحقاقات العملية الدستورية، مؤكدة أن إجراء مجلس الدولة جاء بناء على المادة 23 من الاتفاق السياسي، المتعلقة باقتراح مشروع الاستفتاء، الذي يتشارك فيه مجلس الدولة مع مجلس النواب.
وفي الوقت الذي لا يزال فيه مجلس النواب عاجزاً عن عقد جلساته بطبرق بسبب الخلافات المستمرة بين أعضائه، ومساعي النواب المؤيدين لحفتر إلى عقد جلسة مكتملة النصاب، أعلنت عضو هيئة صياغة الدستور، رانيا الصيد، عن أن مجلس النواب ليس المخول بإصدار قانون الاستفتاء، ومؤكدة في تصريح صحافي أمس الأحد، أن المادة 12 من الاتفاق السياسي تنص صراحة على إحالة مشروع الدستور مباشرة من هيئة صياغة الدستور إلى الاستفتاء عليه من قبل الشعب، وأن المعني بتنظيم الاستفتاء هي المفوضية العليا للانتخابات.
وتحدثت الصيد عن "تحايل أو عدم فهم، فعلاقة مجلس النواب بمشروع الدستور تأتي بعد الاستفتاء عليه، فإذا تمت الموافقة عليه من قبل الشعب بواقع الثلثين من قبل المقترعين، يحال إلى مجلس النواب لاعتماده".
وتعلق حميدة صبري، وهي قانونية ليبية، على الجدل الدائر حالياً على مشروع الدستور، بالقول في حديث لـ"العربي الجديد" إن "الوثائق الدستورية، سواء أكانت الإعلان الدستوري أم الاتفاق السياسي، صريحة جداً في عدم اختصاص مجلسي الدولة والنواب في طرح مشروع الدستور للاستفتاء، متسائلة عن هذا التجاوز"، كما تساءلت كذلك عن سبب "عدم ترك الشعب ليقول كلمته بنعم أو لا"، وأعتبرت أن "هناك أجندات سياسية محلية ودولية لا تريد للبلاد مرحلة استقرار وتسعى لتمطيط المرحلة الانتقالية".
وفي السياق، تساءلت صبري عن موقف الأمم المتحدة الغامض مع مشروع الدستور الذي يمثل حلاً نهائياً لحالة الصراع في البلاد، قائلة "بدا إعلان الذهاب للانتخابات جيداً في البداية، لكن البعثة الأممية يبدو أنها ذاهبة في مسار تمديد المرحلة الإنتقالية، فقد عاد الحديث عن جلسات جديدة للجنة تعديل الاتفاق السياسي، ولقاءات مكثفة للمبعوث الأممي غسان سلامة مع عمداء البلديات، مقابل صمت مطبق عن مشروع الدستور وأحكام القضاء الصادرة بحقه مؤخراً".
وأعربت القانونية الليبية عن مخاوفها من "حديث غسان سلامة مؤخراً عن قرب موعد الانتخابات، يعني انتخابات بلا دستور، وهو ما يعني أن دولاً نصبت سلامة في منصبه الحالي، تدفعه إلى نقل البلاد إلى مرحلة جديدة من الانتقال السياسي"، ومؤكدة أن "الواقع السياسي الراهن يتجاوز الحديث عن قانونية مشروع الدستور".
ولفتت صبري إلى أن "مصالح داعمي حفتر في الشرق التقت بمصالح أطراف في طرابلس، كالمجلس الأعلى وحكومة الوفاق، ويبدو أنهما اتفقا للمرة الأولى، على تمديد مرحلة الانتقال السياسي لإعادة تدوير المشهد، للإبقاء على مصالحهم ومناصبهم. ودعم البعثة الأممية لهذا المسار يعني وقوف دول لها مصلحة في بقاء ذات الوجوه السياسية".