28 اغسطس 2024
عزمي بشارة وإمكان النهوض العربي
في الوقت الذي يبري فيه بعضهم قلمه للخوض في سيرة عزمي بشارة، عن علم أو عن غير علم، ويبذل جهده للتشويش على صورته، والتفتيش في عقيدته، والتلبيس على النّاس في شأنه، ظهر الرّجل من جديد لجمهوره في إحدى كبريات الصحف الفرنسية وأعرقها، صحيفة لوموند. وعبّر لمُحاوره بنجامين بارت، ولعموم القرّاء، عن التزامه المبدئي بالدفاع عن حقوق العرب، وعن انتصاره الدّائم للقضيّة الفلسطينية، ووقوفه أخلاقيّا وعمليّا إلى جانب جمهور المهمّشين، والمقهورين، والثائرين على الدولة الشمولية في سياقٍ عربي، مخبرا، في الوقت نفسه، عن يقينه بإمكان النهوض العربي الشامل، على الرغم من تحدّيات الدّاخل والخارج.. وأنت تقرأ عزمي بشارة في "لوموند"، تتبلور في ذهنك ثلاثة ملامح عن الرّجل: المثقف العضوي، المثقف المؤسّس، المثقّف المؤمن بالديمقراطيّة حلاّ لأزمة الانسداد السياسي العربي.
يتبنّى عزمي بشارة أشواق العرب لمزيد من الحرّية والعدالة والكرامة، ويؤيّد مشروع الانتقال من عصر الدولة الأحادية المغلقة إلى زمن الدولة الديمقراطية المؤسّسية العادلة. وأكّد في الحوار معه حقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، والانتماء إلى دولة جامعة، تضمن التعدّدية والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. والواقع أنّ إقامة الرّجل في وطنه فلسطين وخارجه كانت محكومة، بشكل أو بآخر بهاجس الانتماء إلى الأرض، والعمل من أجل غد قومي عربي أفضل. وعلى الرغم من وجوده في مناطق عرب الداخل التي تسيطر عليها السلطات الإسرائيلية، فإنّ بشارة لم يقبل الأمر الواقع. بل انخرط بقوّة في حملات المقاطعة والتصدّي لحركة الاستيطان، والتهجير القسري للفلسطينيين، وشكّل بمعيّة رفاق له جبهةً مدنيةً لمواجهة سياسات التمييز الإسرائيلية. وفي هذا السياق، بادر إلى تأسيس التجمّع الديمقراطي الذي جدّ في الدفاع عن المصالح الفلسطينية، ومثّل واجهة سياسية حيوية للتمسّك بالهوية العربيّة، ومواجهة سياسات الأسرلة. وأقرّ عزمي بشارة، في "لوموند"، بأنّه جدّ في مدّ جسور
وأرّخ الكاتب في مصنّفات بارزة له مثل "الثورة التونسية المجيدة "، و"سورية.. درب الآلام إلى الحرّية "، و"ثورة مصر" (جزءان)، للثورات العربية، ولم يقف عند التوثيق والتوصيف، بل تجاوز ذلك إلى التحليل، والاستقراء، والاستنتاج، فكان مشغولا بالنظر في دينامية الحدث الثوري، والبحث في معقوليته، وخلفياته، وآلياته ومساراته ومآلاته من منظور إجرائي، يعتمد مقاربة راهنيّة للحدث، تتوسّل بمنهج عابر للتخصّصات، ينفتح معه فنّ التأريخ على علوم مجاورة، مثل الاجتماع، والإحصاء، والنفس، والتوثيق، والأنتروبولوجيا، وغيرها من المعارف الرّافدة لعمل المؤرّخ. ولا يتعامل عزمي بشارة مع الثورة باعتبارها بقرةً مقدّسة، لا تحتمل النقد. ولا يرى حرجا في التسليم بأنّ بعض الثورات العربيّة تعثّرت، وأخرى فشلت في بلوغ أهدافها. وعندما سأله بنجامين بارت: بِم تفسّر فشل الثورات العربية؟ أجاب إنّ ذلك يعود إلى أسباب عدّة متشابكة، منها عنف الأنظمة القائمة وقيام الثورات بعفوية، من دون تنظيم، ومن دون تقديم بديل ناجع بعد إسقاط النظام، فضلا عن "عدم وجود ثقافة ديمقراطية لدى النخب السياسية وعدم قدرتها على إدارة خلافاتها..." هذا إلى جانب العامل الخارجي الذي لم يكن، في الغالب، داعما للثورة في سياق عربي. ومن ثمّة، يفارق الرجل المقاربات التمجيديّة للثورة التي تعتبرها حلّا سحريا أو منجزا نهائيّا، ويُجافي أيضا مقاربات شيطنة الثورة التي تعتبر الاحتجاج جريمةً والثورة مؤامرة.
والثابت عنده أنّ "الثورات زرعت بذور التغيير، وسيأتي التغيير لا محالة"، فعمليّا حرّرت الثورة الفعل الاحتجاجي العربي، ورفعت الخوف من القلوب، وكشفت بشاعة الدولة المستبدّة، ولفتت أنظار العالم إلى جمهور المهمّشين في بلاد العرب، لكنّ الثورة ليست منجزا كاملا، فهي تحتاج إلى التعديل، والتطوير، والنقد، والمراجعة، حتّى لا يتمّ الانزياح بها عن أهدافها. والثورة ليست البديل الوحيد عن حالة الانسداد العربي من منظور بشارة، ذلك أنّه يُؤيّد مشروع الإصلاح من الدّاخل في الحالة العربية، خصوصا إذا كان الإصلاح جادّا ناجعا، توّاقا إلى بناء "دولة المواطنين"، وتحقيق النهوض العربي الشامل.
لم تكن إقامة عزمي بشارة في الدوحة فترة نقاهة، بل كانت فترة تأسيس وعمل. يقول:
بالتزامن مع ذلك، نشط الرجل إعلاميّا من خلال إطلالاته على قناة الجزيرة الإخبارية، وتفاعله التحليلي مع إحداثيات الربيع الاحتجاجي العربي. وأسّس منابر إعلاميّة رائدة، تميّزت بمهنيّةٍ عالية، شدّت اهتمام المتلقّي العربي في وقت وجيز، لأنّها قريبة من مشاغله، منفتحة على همومه اليوميّة، ومتفاعلة مع أسئلته وتطلّعاته، ولأنّها ميّالة إلى تقديم مقاربة تفهّمية / موضوعيّة للواقع العربي، تنأى عن الإعلام الدوغمائي، وتعتمد رؤيةً متعدّدة الأبعاد للحدث، مكرّسة ثقافة الرّأي والرّأي الآخر. وتكفي الإشارة هنا إلى فوز تلفزيون العربي بجائزة أفضل قناة عربية لعام 2018 عن مؤسسة جوائز غلوبال العالمية، والتي تعتمد ضمن معاييرها التحكيمية على التزام الفائز بالمهنية، وقوة المحتوى، ونوعيته وجودة إخراجه. كما توفّر صحيفة العربي الجديد مادّة إعلاميّة ثريّة ومميّزة، وتجمع ثلّة من أفضل الأقلام العربية، وتتيح يوميّا نشر ما لا يقلّ عن عشرة مقالات رأي، وهو ما يخدم مطلب تعزيز ديمقراطيّة التعبير وثقافة الاختلاف في سياق عربي.
ويُبرّر بشارة هذا الجهد التأسيسي في المجالين الإعلامي والأكاديمي بأنّ الغاية "إنشاء جيل جديد من الباحثين ونشر أفكار التنوير.. والتأثير في الرّأي العامّ والدفاع عن قيم الثورات". ومن ثمّة، فطلب التجديد والإصلاح والتنوير خلفيّة موجّهة لمشروع التأسيس. فحالة الانحسار الإبداعي، والابتذال الإعلامي، والانسداد السياسي المشهودة في الوطن العربي تستدعي ابتكار مناويل تفكيريّة/ إنمائية/ تنويرية جديدة، بغاية فكّ عقدة التخلّف، وكسب معركة النهوض الحضاري الشامل. وهذه المهمّة موكولةٌ، بالدرجة الأولى، إلى أصحاب القرار السياسي والنخب المثقفة. والواقع أنّ هذا المشروع التقدّمي وجد دعما ماليّا وإسنادا لوجيستيّا من دولة قطر.
ينتقد عزمي بشارة أدوار الاستبداد، والقمع، والتطييف التي تمارسها أنظمة عربيّة ضدّ شعوبها، وينتقد، في الوقت نفسه، ازدواجيّة المثقف العربي، وممارسته أدوار الركون إلى الدولة الشمولية أو تبريره تسلّطها على النّاس أو اكتفائه بالاستقالة والمكوث في برجه العاجي إزاء ما يحدث في الوطن العربي من مآسٍ وأزمات وانتهاكات، قائلا: "لا يُمكننا أن نسمح لأنفسنا بمغادرة المشهد عندما تحترق بلداننا"، معتبرا أنّ "السؤال الأخلاقي في الحياة الفكرية العربيّة في
يحتاج العرب إلى تجارب أكاديمية، بحثية وإعلامية جادّة وجريئة، شبيهة بتجارب عزمي بشارة، ومحمّد عابد الجابري، وهشام جعيّط، لتحديث الفكر السياسي العربي، وتوطين المعرفة في سياق عربي، وتأمين مساهمةٍ عربيّةٍ فعّالةٍ في المشهد الإبيستيمي الكوني. ويحتاج العرب، أكثر من أيّ وقت مضى، إلى خروج المثقف العربي من قوقعته، وإلى انخراطه بشكل حيوي في الشأن العامّ. والحاجة أكيدة لأن تمدّ النخب العربيّة الحاكمة وأصحاب القرار جسور التواصل مع المثقّفين العرب، وأن يبذلوا الجهد للإعلاء من قيمة الثقافة العالمة، والتمكين لها بغاية تحقيق النهضة العربية المنشودة، وتأمين انتماء العرب إلى مجتمع الألفيّة الثالثة بامتياز.