22 نوفمبر 2015
عصرنة الإشاعة في الجزائر
لا يُعرف للسياسة في الجزائر نهج واضح، أو نمط محدد يتيح للمتابع، وحتى المواطن، فهمها واستيعابها، إذ يخيم الضباب والغبش السياسي على مدار السنة في العاصمة الجزائرية، وتُستبدل بذاك المعلومة والنبأ التقليديان بالإشاعة، وعبّر عن هذا الوزير الأول الأسبق، سيد أحمد غزالي، في قوله لجريدة الوطن "الجزائر بلد محكوم بواسطة الإشاعة"؛ وتُنسب عبارة لسفير أميركي سابق في الجزائر، قوله "حتى الشيطان نفسه لا يدري ماذا يجري في الجزائر".
والحال أن الصحف ووسائل الإعلام الجزائرية دائمة الاعتماد على "مصادر مقربة"، و"مصدر عليم" أو "مسؤول رفض الكشف عن اسمه"، بل إن السكوب الحقيقي والمفاجئ أن يَرِد اسم المصدر ومنصبه. وبذلك، لا تتعارض التحليلات فحسب، كما يحدث عادة، بل تتناقض وتتنافى، موفرة مزيداً من الغموض، ومغذيةً أكثر للإشاعة، صاحبة اليد الطولى في السياسة الجزائرية؛ ومما يزيد في عمرها الافتراضي أن الرواية الرسمية التي تتصف عادة بالعمومية والابتعاد عن التفاصيل، وبغرابة متكررة، تتأخر في الإعلان عن روايتها للحدث، وذلك بعد جفاف الحبر المسال الذي تجف معه قدرة هذه الرواية على التأثير والتوجيه، إذ لا يوجد ناطق رسمي باسم الحكومة أو الرئاسة، وخلايا الاتصال والإعلام في مختلف الوزارات لا توجد سوى على الورق.
لا تمارس السياسة في الجزائر عبر الأقنية التقليدية، بل تنحصر في نقاشات داخل "صالونات سياسية" مغلقة، تتوزع في العاصمة الجزائرية، ويرتادها "نخبة" من العارفين والمؤثرين في السياسة، وكثيراً ما تَصنع تسريبات من داخل هذه المحافل الخبر في الجرائد اليومية التي لا تتورّع في ذكرها "مصادر موثوقة". ولا تلوح في الأفق بوادر لتغيير هذا الوضع القائم الذي يرتهن الرأي العام، بل يبدو كأن هنالك توجهاً جديداً يسعى إلى توطيدها وترسيخها.
تهاجر هذه التسريبات المبرمجة، أخيراً، نحو وجهة جديدة أكثر "عملية"، وأقصد المواقع الإلكترونية الإخبارية التي تشهد في الجزائر ما يشبه ربيعها الخاص؛ ويمكن تفسير هذا الانتقال ظاهرياً بأنه جزء من انتقال مُزمع، وحجيج متواصل للصحافة ووسائل الإعلام التقليدية صوب فضاء جديد وعصري، وإذ تشترك هذه المواقع الإلكترونية مع وسائل الإعلام الكبرى في الانتفاع من مزايا النشر على الإنترنت ويُسر تكلفته، إلا أن الأخيرة توفر لهذه المواقع فرصة للتملص، أولاً، من العوائق والعقبات البيروقراطية التي تضعها مؤسسات مشرفة على قطاع الإعلام، ذات سمعة وتاريخ حافل من التضييق والحجر. وثانياً من اقتطاعات مقصات الرقابة، إضافة إلى عدم وجود حاجز التخصص والخبرة الذي يتطلبه النشر والتحرير عادة.
كانت اللحظة الأهم في مسيرة المواقع الإخبارية في الجزائر، يوم فاجأ الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، عمار سعيداني، من منبر موقع "كل شيء عن الجزائر"، الجميع بهجوم تاريخي على قائد المخابرات السابق، الجنرال توفيق، معدداً له تهماً ثقيلة ومُسترجعة من الماضي، مثل اتهامه بالفشل في حماية الرئيس الراحل محمد بوضياف، وذلك إبّان تصاعد الجدل حول الولاية الرابعة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة. وشقّ بفضل هذا "السكوب" المدوّي الموقع المذكور (مقره باريس) طريقاً جعلت منه أهم المواقع الإخبارية اليوم في الجزائر.
بعد ذلك، توالدت مواقع حاولت مواكبة هذه الموجة الجديدة في صناعة "الخبر" الجزائري الجديد، واللافت أن تغير تقنيات النشر لم يسفر عن تغير في تقنيات التحرير والتعليق، إذ تواترت الأخبار غامضة المصدر وأضافت ضلعاً جديدا للإشاعة المستحكمة، وكثفت من رجع الصدى الذي صار مفتوحاً على العالم بأسره، وبَدَا وكأن الأمر برمته ليس سوى بعث جديد "للإشاعة" وعصرنة لها.
والواقع أن هذه المواقع كسبت (أقله في المرحلة الحالية) "رهان الوجود" في انتظار "رهان
الاستمرار"، كما عبر أحد المشرفين على موقع خاص، وبَدَا مع توالي السكوب أنها لا تبعد كثيراً عن مصادر القرار في الجزائر، بل رجح كثيرون أن ذلك سببه أن بعض ملّاكها هم أصلاً جزء من هذه الدوائر المغلقة التي تحاول صنع واجهات عصرية للإشاعة المفلترة بعناية شديدة. ومع تواصل انفرادها بالأخبار الحصرية والعاجلة، صار الأمر يتعلق بتحدٍّ علني للصحف الكبرى التي تُعرف بتأثيرها الواسع على السياسة في الجزائر، ما جعل الأخيرة تسارع في عصرنة مواقعها وتحديثها اللحظي بالأخبار. وطالب مشرفون على هذه المواقع بأن تُدرج هذه الأخيرة ضمن مخططات الإشهار العمومي الذي يعرف بسخائه، والذي تحتكره مؤسسة الاتصال والإشهار ANEP، المتهمة من صحف معارضة بأنها تستخدم الميزانيات الضخمة للإشهار (الإعلان) العمومي وسيلةً للضغط والتأثير.
تستعيض بعض هذه المواقع عن قلة احترافيها وجديتها، في أحايين كثيرة، بقدرتها على السبق وإذاعة الخبر في زمن قياسي، إذ توفر الشبكة العنكبوتية والتقنيات الحديثة، من هواتف ذكية وغيرها، إمكانية التحرير من موقع الخبر ولحظة حدوثه؛ كما تعرف حزمة المواقع هذه تنوعاً كبيراً في محتواها، فظهرت أيضاً مواقع تتسم بطابع جواريّ، تستهدف طبقة معينة من القراء الذين قد تجمعهم القرابة الجغرافية بأخبار فئوية غير تقليدية تطاول مناحي عدة من الحياة اليومية، بشكل تتحول معه إلى ما يمكن تسميتها "طبيعيّة Naturalisme إعلامية". وتبدو هذه الظاهرة سباقة لاستيعاب تشظّي المادة الخبرية، بل مساهمة فيه بابتعادها عن الأنماط السائدة والتغطية الصحفية التقليدية، نائية بنفسها عن ركائز، مثل القيمة التحليلية، وتستبدلها بقيم أخرى، مثل الصورة التي تعتمد كثير من هذه المواقع على قدرتها وقوتها في سرد الخبر وتحولاته.
تواصل هذه المواقع وكَتَبتها أو محرورها معايشة "لذة النشر"، في ظل غياب نيّة وإرادة رسمية بتقنين هذه الوسائط الإعلامية الجديدة وتنظيمها، بل يساهم الواقع السياسي "المتشنج" في الجزائر، في هذه الأيام، خصوصاً مع تغييرات كبيرة تشهدها مؤسسة الجيش والصراع المحتدم حالياً بين دوائر مالية يمثلها رجال أعمال نافذون، يساهم في صنع الوجه الجديد للإعلام الإلكتروني في الجزائر، على أن حسنه من قبحه حكم ستثبته الأيام وحدها.
والحال أن الصحف ووسائل الإعلام الجزائرية دائمة الاعتماد على "مصادر مقربة"، و"مصدر عليم" أو "مسؤول رفض الكشف عن اسمه"، بل إن السكوب الحقيقي والمفاجئ أن يَرِد اسم المصدر ومنصبه. وبذلك، لا تتعارض التحليلات فحسب، كما يحدث عادة، بل تتناقض وتتنافى، موفرة مزيداً من الغموض، ومغذيةً أكثر للإشاعة، صاحبة اليد الطولى في السياسة الجزائرية؛ ومما يزيد في عمرها الافتراضي أن الرواية الرسمية التي تتصف عادة بالعمومية والابتعاد عن التفاصيل، وبغرابة متكررة، تتأخر في الإعلان عن روايتها للحدث، وذلك بعد جفاف الحبر المسال الذي تجف معه قدرة هذه الرواية على التأثير والتوجيه، إذ لا يوجد ناطق رسمي باسم الحكومة أو الرئاسة، وخلايا الاتصال والإعلام في مختلف الوزارات لا توجد سوى على الورق.
لا تمارس السياسة في الجزائر عبر الأقنية التقليدية، بل تنحصر في نقاشات داخل "صالونات سياسية" مغلقة، تتوزع في العاصمة الجزائرية، ويرتادها "نخبة" من العارفين والمؤثرين في السياسة، وكثيراً ما تَصنع تسريبات من داخل هذه المحافل الخبر في الجرائد اليومية التي لا تتورّع في ذكرها "مصادر موثوقة". ولا تلوح في الأفق بوادر لتغيير هذا الوضع القائم الذي يرتهن الرأي العام، بل يبدو كأن هنالك توجهاً جديداً يسعى إلى توطيدها وترسيخها.
تهاجر هذه التسريبات المبرمجة، أخيراً، نحو وجهة جديدة أكثر "عملية"، وأقصد المواقع الإلكترونية الإخبارية التي تشهد في الجزائر ما يشبه ربيعها الخاص؛ ويمكن تفسير هذا الانتقال ظاهرياً بأنه جزء من انتقال مُزمع، وحجيج متواصل للصحافة ووسائل الإعلام التقليدية صوب فضاء جديد وعصري، وإذ تشترك هذه المواقع الإلكترونية مع وسائل الإعلام الكبرى في الانتفاع من مزايا النشر على الإنترنت ويُسر تكلفته، إلا أن الأخيرة توفر لهذه المواقع فرصة للتملص، أولاً، من العوائق والعقبات البيروقراطية التي تضعها مؤسسات مشرفة على قطاع الإعلام، ذات سمعة وتاريخ حافل من التضييق والحجر. وثانياً من اقتطاعات مقصات الرقابة، إضافة إلى عدم وجود حاجز التخصص والخبرة الذي يتطلبه النشر والتحرير عادة.
كانت اللحظة الأهم في مسيرة المواقع الإخبارية في الجزائر، يوم فاجأ الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، عمار سعيداني، من منبر موقع "كل شيء عن الجزائر"، الجميع بهجوم تاريخي على قائد المخابرات السابق، الجنرال توفيق، معدداً له تهماً ثقيلة ومُسترجعة من الماضي، مثل اتهامه بالفشل في حماية الرئيس الراحل محمد بوضياف، وذلك إبّان تصاعد الجدل حول الولاية الرابعة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة. وشقّ بفضل هذا "السكوب" المدوّي الموقع المذكور (مقره باريس) طريقاً جعلت منه أهم المواقع الإخبارية اليوم في الجزائر.
بعد ذلك، توالدت مواقع حاولت مواكبة هذه الموجة الجديدة في صناعة "الخبر" الجزائري الجديد، واللافت أن تغير تقنيات النشر لم يسفر عن تغير في تقنيات التحرير والتعليق، إذ تواترت الأخبار غامضة المصدر وأضافت ضلعاً جديدا للإشاعة المستحكمة، وكثفت من رجع الصدى الذي صار مفتوحاً على العالم بأسره، وبَدَا وكأن الأمر برمته ليس سوى بعث جديد "للإشاعة" وعصرنة لها.
والواقع أن هذه المواقع كسبت (أقله في المرحلة الحالية) "رهان الوجود" في انتظار "رهان
تستعيض بعض هذه المواقع عن قلة احترافيها وجديتها، في أحايين كثيرة، بقدرتها على السبق وإذاعة الخبر في زمن قياسي، إذ توفر الشبكة العنكبوتية والتقنيات الحديثة، من هواتف ذكية وغيرها، إمكانية التحرير من موقع الخبر ولحظة حدوثه؛ كما تعرف حزمة المواقع هذه تنوعاً كبيراً في محتواها، فظهرت أيضاً مواقع تتسم بطابع جواريّ، تستهدف طبقة معينة من القراء الذين قد تجمعهم القرابة الجغرافية بأخبار فئوية غير تقليدية تطاول مناحي عدة من الحياة اليومية، بشكل تتحول معه إلى ما يمكن تسميتها "طبيعيّة Naturalisme إعلامية". وتبدو هذه الظاهرة سباقة لاستيعاب تشظّي المادة الخبرية، بل مساهمة فيه بابتعادها عن الأنماط السائدة والتغطية الصحفية التقليدية، نائية بنفسها عن ركائز، مثل القيمة التحليلية، وتستبدلها بقيم أخرى، مثل الصورة التي تعتمد كثير من هذه المواقع على قدرتها وقوتها في سرد الخبر وتحولاته.
تواصل هذه المواقع وكَتَبتها أو محرورها معايشة "لذة النشر"، في ظل غياب نيّة وإرادة رسمية بتقنين هذه الوسائط الإعلامية الجديدة وتنظيمها، بل يساهم الواقع السياسي "المتشنج" في الجزائر، في هذه الأيام، خصوصاً مع تغييرات كبيرة تشهدها مؤسسة الجيش والصراع المحتدم حالياً بين دوائر مالية يمثلها رجال أعمال نافذون، يساهم في صنع الوجه الجديد للإعلام الإلكتروني في الجزائر، على أن حسنه من قبحه حكم ستثبته الأيام وحدها.