عفو السيسي باعتبارات أمنية وتمييز غير مبرر

18 مايو 2019
العفو شمل أشخاصاً سبق وقضت المحكمة بعدم قانونية حبسهم(Getty)
+ الخط -


بينما يفتح نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قضايا جديدة غير معروفة الوقائع للمعارضين المعروفين ليبقيهم محبوسين ومغيبين عن العمل السياسي والرأي العام، أصدر في ساعة مبكرة من صباح أمس الجمعة قراراً جمهورياً بالعفو عن العقوبات المتبقية على 560 شخصاً، في مراحل مختلفة من المحاكمات في أكثر من 300 قضية، جُلها من قضايا العنف والإرهاب والانضمام إلى جماعات يزعم النظام أنها إرهابية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، وقعت أحداثها منذ انقلاب يوليو/ تموز 2013 وحتى عام 2017، وصدرت أحكامها من محاكم عادية وعسكرية وطوارئ.

وهذه المجموعة المشمولة بالعفو تعتبر من بين أكبر المجموعات التي استفادت من قرارات العفو قليلة العدد التي أصدرها السيسي عبر سنوات حكمه، لكنها حملت مؤشرات عديدة. السمة الأولى لهذا القرار يمكن وصفها بـ"الافتعال" بهدف الترويج الإعلامي فقط أمام الدوائر الغربية. فالعفو يشمل عشرات الحالات ممن تم نسيانهم لسنوات في السجون، وقرر السيسي اليوم العفو عنهم على الرغم من قرب موعد خروجهم الرسمي من السجون، بل إن بعضهم قضوا في السجون فعلياً مدداً أطول من المحكوم عليهم بها. وأبرز النماذج على ذلك، الفتاة إيناس محمد حسين إبراهيم، المحكوم عليها بالسجن عامين في القضية المعروفة إعلامياً بـ"اتحاد الجرابيع"، وهي محبوسة منذ 2017 وكان من المقرر أن تخرج في النصف الأول من العام الحالي. وكذلك الفتيات الثماني المستفيدات بالعفو من القضية المعروفة إعلامياً بـ"فتيات دمياط". فوقائع القضية تعود إلى 2015 وهن محبوسات منذ ذلك الحين، على الرغم من أن الحكم الجنائي الصادر ضدهن في 2017 كان بالسجن فترات تتراوح بين عامين و3 أعوام، وبالتالي كان يجب أن يخرجن من السجن العام الماضي على الأكثر، باحتساب فترة الحبس الاحتياطي، لكنهن بقين في السجن بحجة انتظار حكم النقض في طعنهن. لكن العفو صدر استباقاً للنقض ولم يعد له أثر.

وينطبق الأمر أيضاً على عدد كبير من المدانين في قضايا أحداث الإسكندرية والعدوة ومطاي وبني مزار في المنيا، وإتلاف مديرية الصحة في كفر الشيخ، بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة في أغسطس/ آب 2013، والذين صدرت ضدهم أحكام تتراوح بين 5 و10 سنوات، وهو ما يعني أن معظمهم كانوا يستحقون الخروج الطبيعي من السجن هذا العام، والبعض الآخر كان يستحق الخروج بنصف المدة أو ثلثيها وفقاً لقواعد الإفراج الشرطي المعمول بها. واللافت أيضاً أن العفو شمل أشخاصاً سبق أن قضت محكمة النقض بعدم قانونية حبسهم، وإلغاء أحكام الإدانة الصادرة ضدهم. ونموذج على ذلك، المتهمون في القضية 19305 لسنة 2013 بالإسكندرية، المعروفة بأحداث سيدي جابر، والذين قضت محكمة النقض بإلغاء إدانتهم وإعادة محاكمتهم جميعاً في يوليو/ تموز 2018 وبالتالي كان يجب قانوناً الإفراج عنهم منذ ذلك الحين.

السمة الثانية لقرار العفو الأخير هي غياب الشفافية في بيان سبب العفو عن بعض الأشخاص، واستمرار حبس آخرين في القضايا نفسها، ما يفتح باب التأويلات بين ذوي المعتقلين والمعفو عنهم ومحاميهم حول سبب العفو عن بعض الأشخاص دون الآخرين، على الرغم من وحدة وضعهم القانوني وتطابق الاتهامات الموجّهة إليهم. ومن نماذج ذلك العفو عن 13 فقط من المدانين في أحداث اقتحام قسم كرداسة، المعروفة إعلامياً بـ"مذبحة كرداسة"، وصدرت ضدهم أحكام بالسجن المشدد مدداً مختلفة وبالمؤبد، على الرغم من تماثل موقفهم مع أكثر من 30 آخرين. وكذلك الإفراج عن 8 فقط من المدانين في قضية أحداث مجلس الوزراء التي وقعت في ديسمبر/ كانون الأول 2011، وهي تعتبر من أقدم القضايا التي استفاد متهموها من العفو. ومن بين المشمولين فيها محكومون بالسجن بمدد تتراوح بين 5 و15 عاماً، بينما يقبع زملاؤهم في السجن. وعلى رأس المعفو عنهم المتهم محمود عمران، الذي استندت المحكمة في حيثيات إدانة الناشط أحمد دومة إلى روايته التي حمّلت "النشطاء السياسيين" مسؤولية تطور الأحداث.



وفي السياق نفسه، تم العفو عن عدد ضئيل من المتهمين في كل قضية عنف على حدة من قضايا قرى ومراكز الصعيد والوجه البحري والقناة التي وقعت أحداثها بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة، في كل من أقسام المنيا ومغاغة وأبو قرقاص ودير مواس وسمالوط وديروط والمراغة وأخميم وههيا وجرجا وقنا وأسوان والفيوم والقرين وبلبيس وأبو حماد وببا والزقازيق وإطسا وسنورس وفاقوس وميت غمر والسنبلاوين ومنية النصر ونبروه وسرس الليان والسنطة وبسيون وشبين الكوم والسادات وبركة السبع ودسوق ودمنهور وأبو حمص وأبو المطامير والرحمانية وكفر الدوار وقسم أول الإسماعيلية وقسم ثاني السويس ودمياط الجديدة وقسم أول دمياط، وتظاهرات الإسكندرية في أقسام مينا البصل والعطارين والإبراهيمية والرمل والمنتزه، وتظاهرات حي الظاهر وجامعة الأزهر في القاهرة.

ويعكس اختيار أشخاص محددين من القضايا للعفو عنهم، الغلبة المطلقة للتحريات الأمنية على الاعتبارات القانونية، وهو ما أكده مصدر أمني، لـ"العربي الجديد"، بقوله إن جهاز الأمن الوطني ومصلحة الأمن العام يقومان باستمرار بتحديث بيانات المحبوسين بناءً على المناقشات معهم داخل السجون وأوضاع ذويهم خارجها. ويتم تحديد المرشحين للعفو بناء على اعتبارات عدة، أهمها التأكد من عدم تمثيل خروج الشخص أي خطر على أمن النظام وعدم وجود روابط حالية بينه وبين شخصيات وتيارات معارضة، إلى جانب معايير خاصة بالوضع الاقتصادي للأسر وكذلك الوساطات التي تلجأ إليها بعض العائلات. وأوضح المصدر أن هناك احتمالاً بإصدار قرار عفو جديد عن مجموعة أخرى من السجناء في عيد الفطر أو عيد الأضحى.

أما السمة الثالثة للقرار، فهي تعمّد عدم الإفراج عن شخصيات مشهورة أو ذات باع في معارضة النظام علناً، وتجاهل الشخصيات التي دعت المنظمات الدولية أخيراً للإفراج عنها وخصوصاً من ذوي الاتجاهات اليسارية. فالشخصية الأكثر شهرة في هذا العفو هو الكاتب الصحافي عبد الحليم قنديل، الذي كان من مؤيّدي النظام الحالي منذ انقلابه على حكم "الإخوان"، وصدر ضده حكم غيابي بالسجن 3 سنوات في القضية المعروفة إعلامياً بـ"إهانة القضاة"، وذلك من دون باقي زملائه المحبوسين على ذمة القضية نفسها. والسمة الرابعة هي تضمين العفو عدداً من الأشخاص التابعين بشكل أو بآخر للنظام من دون مبرّر منطقي للعفو، وهي سمة معتادة في قرارات العفو السابقة للسيسي، والتي كان أبرزها العفو عن البلطجي الشهير صبري نخنوخ، في قرار العفو الصادر في مايو/ أيار 2018. وهذه المرة يستفيد من هذه السمة الضباط التسعة المدانون بقتل رجل وزوجته وابنهما وقريب لهم في سمنود بالغربية في مارس/ آذار 2013 بحجة أنهم اشتبهوا فيهم أمنياً، والذين صدر ضدهم حكم بات من محكمة النقض منذ شهرين. وتنوّع استقبال العفو عن الضباط التسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، بين مؤيدين من أنصار الشرطة، ومعارضين للعفو عنهم ومعتبرين أنه تمييز غير مبرر للضباط المتورطين في سفك دماء بريئة من غير ذنب، في الوقت الذي يدان فيه آخرون بمدد سجن أطول ولا يستفيدون من العفو على خلفية الانتماءات السياسية فقط ومن دون أن يتورطوا في سفك دماء أو عنف واقعي.