عقدة ليلة الدخلة

24 فبراير 2015

عمل لـٍ(لويس أرامغون)

+ الخط -

يحكى أن عبداً خصيّاً طلب من سيده الماكر أن يحقق له طلباً وحيداً في حياته، قبل أن يموت، ووعده مقابل تلبية رغبته أن يكون أشد ولاء من قبل، وأن يضاعف من جهده في خدمته، غير أن السيد كان يرفض، دوماً، تلبية هذا الحلم، خشية أن يطمع العبد بمزيد من المطالب، خصوصاً وهو يستذكر قصيدة المتنبي عن كافور.
وبعد طول إلحاحٍ، وافق السيد الماكر على تلبية الطلب، شريطة أن لا يتعلق الأمر بالحرية، وسأله: ما طلبك؟ أجاب العبد الخصيّ: أن تسمح لي بالزواج من العبدة فلانة.
بهت السيد من الطلب الذي لم يكن يتوقعه من خصيّ، وسأل: وكيف ستعاشر زوجتك؟ ارتبك العبد قليلاً، وتلعثم قبل أن يجيب: بواسطتك يا سيدي. .. فقهقه السيد طويلاً، واستهوته الفكرة، ولبى طلب عبده.
لم تنته الحكاية عند هذا، فظلت سراً بين العبد وسيده، لكن أخلاق العبيد أبت إلا أن تواصل فعلها، ففي ليلة الدخلة، عندما راقب العبد ما جرى، شعر بفحولةٍ لم يعهدها بنفسه من قبل، ظن معها أنه هو من أنجز المهمة، وليس سيده، فراح، من فرط سذاجته، يفخر أمام الناس بـذلك "الشيء" الذي يمتلكه سيده، كلما سألوه عن ليلة دخلته، فشعر العبيد الآخرون بالحسد، وراحوا يطالبون السيد بأن يزوجهم وفق الشروط نفسها.. وهذا ما كان.
لم تنته الحكاية هنا، فقد شاءت المصادفات أن يمتثل السيد الماكر لضرورات الحداثة التي اجتاحت العالم، من دون أن يتخلى عن مكره، فقرر أن يحرر عبيده، وأن يمنح كل واحد منهم مزرعة صغيرة، يتدرب فيها على السيادة والقمع، في مقابل أن يمنحوه القسم الأكبر من المحصول، فضلاً عن السماح له بممارسة مهماتهم الزوجية كاملة، فامتثلوا للشرطين، خصوصاً الثاني، لأنهم ما زالوا يفخرون بذلك "الشيء" لدى سيدهم، فضلاً عن أنهم لم يتخلصوا من عقدة "السيد"، وإن بدوا أحراراً في الظاهر.
والحق يقال، كان أولئك العبيد بارعين في أداء فروض الولاء للسيد، حتى بعد تحررهم، بل وغدوا قادرين على ابتكار وسائل جديدة، لتجميل صورة مزارعهم الصغيرة، بمحاولة تقليد ما لدى السيد من أدوات الحداثة.
باختصار، أصبح هؤلاء العبيد أسياداً في مزارعهم، وعبيدا في مزرعة السيد الكبير، وصاروا يشعرون بأن من حقهم المطالبة بامتيازات أكبر من قبل، وما أكثر الأدوار التي حاولوا تقمصها، حتى وإن كان القميص فائضاً عن ضعف أجسادهم.
على هذا الغرار، استأذن بعضهم السيد الماكر بإنشاء مقر لحقوق الإنسان في مزرعته، فيما كانت المزرعة كلها ترزح تحت وطأة القمع والكبت وهدر حقوق الإنسان، ثم راح يفخر هذا العبد أمام أقرانه بأنه صاحب إنجاز "حقوقي"، يناظر ما لدى سيده من مراكز حقوقية، تعنى بالإنسان وكرامته.
واستورد بعضهم صناعات السيد كلها من مكائن وطناجر ضغط وهواتف وسيارات، على قاعدة أن الحداثة مرتبطة بالنتائج، لا الأسباب، من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء محاكاة الصناعة نفسها، ثم راحوا يفاخرون بأنهم أصبحوا "صناعيين" و"تقنيين"، لمجرد امتلاكهم طائرة بوينغ أو قلم "باركر". ومع تفاقم شعورهم بالسيادة، تجرأ آخرون بطلب زجّهم في أحلاف عسكرية دولية، لم يدركوا تبعاتها وعواقبها، فراحوا يحاربون بالنيابة عن السيد الماكر، بأسلحته، حتى باتوا يشعرون، مع طول حروب الوكالة، أنهم غدوا "دولاً عظمى"، في وسعها أن تشارك في تحديد مصير العالم برمته.
زبدة القول، عاش حديثو السيادة هؤلاء طرازاً من الانفصام بين هوسهم بالسلطة القائمة على التفرد بالقرار وشروط الحداثة، محاولين صنع مزيج غريب غير قابل للمضغ والبلع من العبد والسيد، فكانت النتيجة وبالاً، ومزيداً من التراجع إلى زمن العبودية. أما السيد الماكر، فما زال يزور عبيده في أية لحظة يشاء، بكل نياشينه وأساطيله، ويؤدي مهام المعاشرة وفق مزاجه، تاركاً عبيده يتلصصون من وراء الأبواب، ويفخرون بليلة "الدخلة".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.