علاء الديب.. هدوء في المعادي

19 فبراير 2016
(1939 - 2016)
+ الخط -
كما عاش حياته هادئاً ومنعزلاً، رحل الكاتب والروائي علاء الديب أمس في القاهرة عن 77 عاماً، بعد رحلة قصيرة مع المرض دامت قرابة ثلاثة أشهر.

الراحل واحد من أهم أصوات جيل الستينات الأدبي في مصر، ومن أكثرها نبلاً واستغناء، تحقّقت فرادته ليس بسبب عزلته الاختيارية، وإنما لانطباع هذه العزلة على أعماله التي اتسمت بنبرة وادعة تملؤها المرارة، كأن الرجل في ابتعاده رأى كما يرى الطائر فكان قاسياً في وضوح كتابته وكليّتها.

ولد علاء الديب في حي المعادي الهادئ والواقع جنوب شرق العاصمة المصرية، عام 1939 وعاش عمره في الحي، كما لو أن الأقدار اختارت له ضاحية تلائم نفسيته، أو أن الحي المنزوي وسمه بصفاته. أخوه الأكبر المثقف والمترجم والكاتب بدر الديب، والذي مثّل لعلاء زاده المعرفي الأول وصاحب التأثير الكبير عليه، فبرز الأخ الأصغر إلى الوسط الثقافي كاتباً وناقداً ومترجماً وواسع الاطلاع مثل أخيه.

كتب القصة والرواية والنقد، وقدّم ترجمات لأعمال مهمة، كترجمته الأشهر لكتاب "الطريق إلى الفضيلة" للفيلسوف الصيني لاو تسو، وقبل أربعة أعوام أصدرت "الهيئة المصرية العامة للكتاب" ضمن مشروع "مكتبة الأسرة"، مجلداً يضمّ أعمال الديب والتي كتبها في فترة تمتد من منتصف الستينيات وحتى مطلع الألفية الجديدة، هي "القاهرة" و"زهر الليمون" و"أطفال بلا دموع" و"قمر على المستنقع" و"عيون البنفسج" و"أيام وردية"، فيها نفس همومه وانشغالاته عن الطبقة الوسطى وأحلامها وانكساراتها وتحللها؛ الطبقة التي وصفها بقوله "صاحبة أكبر إنجازات وأفظع جرائم، صاحبة الحل والربط وقليلة الحيلة، صاحبة المثل العليا والقيم المزيفة، الخائنة النبيلة، صانعة العدسات الوحيدة التي أرى بها الواقع والمصير".

الكتاب الأشهر للديب كان "وقفة قبل المنحدر، من أوراق مثقف مصري 1952- 1982"، والذي مزج فيه بين سيرته الذاتية وتأملاته النقدية لحال مصر السياسي والاجتماعي، راصداً التحولات الثقافية والمتغيّرات السياسية، ومنشغلاً فيه بدور المثقف وكيانه. ظلّ الكتاب لكثيرين علامة على أزمات عموم المثقفين تجاه مشروع النهضة العربية بنسخته الناصرية تحديداً، والإشارة للمراوحة بين أحلام النهوض المجهضة وواقع اجتماعي وسياسي مأزوم.

لم يتخلّ في هذا الكتاب السيريّ عن هدوء لغته كالعادة، ولا شاعريتها وكثافتها، لكنها خرجت مريرة من حلْق مكتوم بإحساس الضياع، وروح حزينة رأت حلم النهوض ينهار إثر هزيمة يونيو 1967، وتحوّلات ما بعد انفتاح عصر السادات، كتب: "لا أحد يشعر بمعنى التخلف قدر ذلك الكائن الذي يطلق عليه المثقف".

إلى جانب عزلته، هناك علامة أخرى بارزة في مسيرته، وهي متابعاته الثقافية التي كان ينشرها في باب "عصير الكتب" بمجلة "صباح الخير" لما يزيد على 40 عاماً، صار فيها الباب علامة على صاحبه وإشارة منه لأصوات جديدة واعدة، واكتشافاً منه للجمال غير المكرّس، يمارس الكتابة فيه بروح القارئ الشغوف والمتبصّر لا الناقد المدرسي المهجوس بوصفات جاهزة للكتابة المعتبَرة، وظلّ الباب في سنواته الطويلة يمثل ترشيحات قرائية لمتابعيه، ما دعاه إلى إصدار بعض من مقالات بابه في كتاب يحمل نفس العنوان ليكون متاحاً للأجيال الشابة.

عاد الديب من بعد فترة توقف لينشر مقالاً في جريدة الأهرام في السنوات الماضية يمارس فيه، معظم الوقت، دوره الثقافي كقارئ نهم يشير لكل جميل جديد، وليؤكد على تميّزه وسط مجايليه- الميّزة التي شاركه فيها الروائي الراحل إدوارد الخراط- في تحريك مياه النقد الراكدة، من جهة تعبيد الطريق للأصوات الجديدة عبر متابعاته النقدية، خلافاً لجهة التنظير النقدي فيما اختص به الخرّاط وميّزه.

علاء الديب واحد من "أُسطوات" الكتابة النابهين، بكل ما تحمله كلمة "أسطى" من التزام مهني ودقة حرفية وإخلاص متواضع، وبرحيله تنطفئ تجربة عمر من معايشة الكتب والكتابة ظلّ فيها صوتاً له ما يميزه: مرارته وهدوؤه واستغناؤه ونبله ووضوحه وربما وبذات القدر سوداويته وتفاؤله في آن معاً.



اقرأ أيضاً: سحر المؤرخ