زادت حرارة الشمس اللاهبة والغبار المتصاعد من جرعة الكآبة المحيطة بمقبرة إمام ويس بمحافظة ديالى، شرق العراق، إذ انشغل عشرات الرجال في وضع اللمسات الاخيرة لدفن 79 جثماناً من قتلى مجزرة جامع مصعب بن عمير. وضعت الجثامين متجاورة في شق أرضي طويل، فيما ارتفع صوت شيخ كبير أمر الرجال بالتراجع وإفساح المجال للجرافة من أجل إتمام أكبر عملية دفن تشهدها المنطقة، لا تلبث أصوات التكبير والتهليل وعبارات التهنئة لـ"شهداء" صلاة الجمعة ترتفع لتختتم المشهد الجنائزي الحزين.
يدعونا عمر الحمداني (ناشط واكب المجزرة التي وقعت الجمعة)، ونحن في طريق العودة من المقبرة إلى الاستراحة في بيت أقاربه قبل الانطلاق نحو بيوت القرية التي شهدت المجزرة.
يتفهّم استعجالنا في إكمال الموضوع والعودة إلى قضاء المقدادية ـ شمال شرق بغداد ـ قبل غروب الشمس. كلمات قليلة من الحمداني لرجال عشيرة بني ويس الواقفين لحراسة الباب الخارجي لجامع مصعب بن عمير، بعدها سُمح لنا بالدخول إلى حرم المسجد الصغير الذي تحطم زجاج نوافذه بالكامل وتناثرت شظايا من سقفه وأعمدته بفعل الرصاص الغزير الذي أطلق داخله، حيث تحولت بقع الدماء التي تغطي سجاد أرضه والجدران إلى اللون الاسود، فيما تفوح رائحة الموت من كل أرجاء المسجد المنكوب.
لا تبدو على أي شخص في القرية، المكوّنة من 300 بيت طيني، أي رغبة في الحديث. الحزن والخوف واليأس تسكن دور قرية الويسية حيث يحار الداخل في تقديم التعزية إلى أي من الاهالي، فهذا منزل حسن القيسي الذي قتل أهله بالكامل، وهم 16 شخصاً، بينهم 5 أطفال.
وهناك عائلة (آل بطي)، التي ينتمي إليها شيخ المسجد، مزهر مهدي بطي، وأبناؤه الثلاثة، فيصل وكهلان وغازي، وشقيقه علي وولده عبد الصمد. على بعد منزلين من المسجد، توجد دار عباس محسن فضيل، الذي قتل مع أبنائه الأربعة، أيسر وأيوب وصفاء وعلاء وشقيقه عدنان.
نجح مرافقنا، عمر الحمداني، في إقناع بهية عطوان الويسي، الاربعينية التي ابيضّت عيناها من شدة البكاء على عائلتها، للحديث عن مذبحة الجمعة، فقالت بصوت مبحوح:"كنت أساعد قريبتي في تحضير طعام الغداء للرجال والفتيان الذين أوشكوا على إنهاء صلاة الجمعة في مسجد القرية، انتابني القلق من نبأ انفجار استهدف عناصر من ميليشيا الحشد الشعبي في المنطقة المجاورة، لكن لم أُلقِ لقلقي بالاً".
"لم تلبث حالة هرج شديدة أن سادت القرية، وسط أنباء عن دخول أكثر من 20 مسلحاً إليها وانتشارهم قرب المسجد وتوزيعهم لعناصر مجهزين بالبنادق هناك"، تكمل الويسي باكية: "الأمر لم يستغرق أكثر من 10 دقائق حتى تعالت أصوات الرصاص المستمر مع صيحات التشجيع من المهاجمين وصرخات الاستغاثة من داخل حرم المسجد، سرعان ما انتقل المسلحون إلى 5 منازل مجاورة، أطلقوا الرصاص على أهلها، قبل أن ينسحبوا إلى حدود القرية مع تأكيد زعيمهم بأن (هذه مجرد قرصة أذن والقادم أسوأ)".
لم يكتفِ المهاجمون بقتل المصلين وجيران المسجد، ولكنهم أضافوا إليهم كل مَن هبّ لمعرفة ماذا يحدث، ومنهم قريبة بهية الويسي، وهي إمراه في الأربعين من عمرها تدعى بدرية علي مهدي. بدرية ركضت باتجاه المسجد لمعرفة مصير ابنها وزوجها، سمح لها عناصر الميليشيا بالدخول قبل أن يطلقوا النار عليها ويردونها إلى جوار زوجها وابنها الذي تمكنت من احتضانه في اللحظة الاخيرة.
ينضم إلينا أيمن كنعان، الذي كان ابن عمه سعود عباس أحد مصلي المسجد المغدورين. وبعدما يتأكد من أننا صحافيين ولسنا موظفي حكومة، يوافق على الحديث عن موضوع اللجنة التحقيقية التي زارتهم، مشيراً إلى أنها مؤلفة من 9 ضباط تابعين لوزارة الداخلية، قضوا في القرية أقل من ساعة واحدة، قبل أن يغادروا مصطحبين معهم قافلة من وسائل الاعلام الحكومية التي رافقتهم.
بمرارة شديدة، يسخر كنعان من اللجنة التي جاءت لتلقي خطابها المقصود أمام وسائل الإعلام، وليس للاستماع إلى حقيقة ما جرى، مبيّناً أن رئيسها، وهو برتبة عميد، أخذ يحدّث ذوي الضحايا عن محاولات تنظيم "داعش" للتفريق بين السنّة والشيعة بعد حال التآلف التي أخذت تسود المنطقة، على حد قوله، ودون أن يذكر شيئاً عن ميليشيا الحشد الشعبي الشيعية التي ارتكبت المجزرة أو يتطرق لاسم زعيمها عبد الصمد الزركوشي.
"النسبة الأكبر من أهالي الشهداء رفضوا الحديث إلى أعضاء اللجنة لقناعتهم بعدم جديتها"، يقول خلف علوان الكروي، أحد أبناء القرية، مضيفاً: "ذوو الجرحى فضّلوا السكوت بعدما خطفت الميليشيا ذاتها الجريح محمد الاوسي من على سريره في مستشفى المقدادية بعد أقل من يوم على تنفيذ المجزرة، وهو ما دفع بذوي بقية الجرحى إلى الإسراع بنقلهم إلى مستشفى خانقين الخاضعة لسيطرة وحماية قوات البيشمركة الكردية".
وبلهجة عصبية ومنفعلة، يسأل الكروي عن جدوى الحديث والفائدة منه بعد هذه المجزرة التي تتوفر كل دلائلها ومعطياتها، وحتى القَتَلة الذين تركوا منازلهم في القرية المجاورة بشكل مؤقت، ويعتزمون العودة بعدما تهدأ العاصفة، لأنهم يتمتعون بالغطاء الديني والسياسي.
آخر كلمات الكروي، قبل أن يغلق باب منزله الطيني في وجوهنا، أنه لن يصدق وجود عدالة في العراق حتى يرى عبد الصمد الزركوشي وإخوانه ومعاونيه معلقين على أعواد المشانق، وأن هذا المشهد هو الوحيد الذي يخفف من نار الفقدان والخسارة التي تغلي داخل أهالي القرية.
المشتبه بهم
تشير أصابع الاتهام، بحسب أهالي قرية بني ويس، إلى أن منفّذي المجزرة هم أتباع الشيخ عبد الصمد الزركوشي، الحاصل على رتبة عميد في ميليشيا الحشد الشعبي الشيعية من مكتب رئيس الوزراء العراقي السابق، القائد العام السابق للقوات المسلحة، نوري المالكي.
والزركوشي من الأكراد الفيليين، ويعد إحدى الشخصيات البارزة في قرية الزركوش التي تبعد مئات الامتار فقط عن قرية بني ويس.
سبق للزركوشي الترشح في انتخابات البرلمان العراقي الماضية على قائمة التحالف الوطني، لكنه لم يفز، وعقب سيطرة المسلحين على الموصل، شكل الزركوشي ميليشيا خاصة به يقودها قامت بترويع سكان المنطقة.
ناشطون من ديالى أكدوا، لـ"العربي الجديد"، أن الزركوشي أغلق حسابه النشط على شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، بعد أقل من 24 ساعة من ارتكاب مجزرة الجامع. وامتلأ الحساب المغلق بصور للزركوشي وعلى كتفه رتبة العميد، وإلى جواره مسلحين من الميليشيا التابعة له. وبحسب الناشطين، فإن هذه الصور تحديداً هي ما جعلت الزركوشي يغلق الحساب حتى لا يستخدم كدليل ضده هو ورجاله.
رسائل المجزرة
"المجزرة لها رسالتان"، هذا ما قاله المحلل السياسي، حيدر الكرخي، لـ"العربي الجديد"، مبيّناً أن فاعل المجزرة يهدف إلى القول إن الوضع لم يتغيّر كثيراً عن أيام المالكي، وإن الذين عاشوا حالة من النصر يوم تكليف العبادي عليهم أن يعيدوا حساباتهم لأن أزمة السلام بين مكوّنات الشعب العراقي مستمرة إلى حد الآن، سواء بوجود المالكي أو ببديله العبادي. والرسالة الثانية، هي أن المؤسسة العسكرية والقضائية ومنظومة الدولة بالكامل لم تتغيّر.
القصاص أو التدويل
يرى الناطق باسم الحراك الشعبي في ديالى، الشيخ أحمد سعيد، أن محافظة ديالى ذات أهمية استراتيجية لسنّة العراق، لذلك يتم حشد الميليشيات الشيعية التكفيرية لقتل أهلها وتهجيرهم.
سعيد أكد، في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد"، أن سنّة العراق جرى استهدافهم بالمذبحة بعدما استقرت أحوالهم أخيراً، ولو قليلاً، عقب التطورات السياسية الأخيرة، لكنه لا يرى حلاً لما وقع إلا بمحاسبة الجُناة المعروفين بالاسم لدى الجهات المختصة.
"دفاعنا عن أنفسنا ليس جريمة في ظل الهرج الحاصل في العراق"، يقول سعيد، ويتابع: "بعد مجزرة مسجد مصعب بن عمير، علينا مقاتلة هؤلاء المجرمين الميليشياويين" للحفاظ على حياتنا.
أما القيادي في كتلة "ديالى هويتنا البرلمانية"، الدكتور عمر الحميري، فدعا إلى اعتبار ما وقع ببني ويس جريمة حرب، قائلاً، لـ"العربي الجديد": "سأعمل على رفع دعاوى في محكمة العدل الدولية ضد المتسبّبين بمجزرة مسجد مصعب بن عمير في حال لم ينصف القضاء أهل ديالي ويحاسب القتلة".
واتفق الحميري، الذي عمل محافظاً سابقاً لديالى، مع رأي الشيخ سعيد في ضرورة تشكيل سرايا الدفاع المناطقي لحماية القرى المسالمة، قائلاً: "بعد استقرار الأمن، يتم دمج هؤلاء السرايا في الأجهزة الأمنية".
الحميري كشف عن دعوة الشخصيات الوطنية والسياسية لتشكيل ثلاث سرايا للدفاع المناطقي، مبيّناً أن اتصالات تجري مع فصائل مسلحة لم تلطخ أياديهم بدماء العراقيين لعقد مؤتمر وطني للإعلان عن التشكيل بقيادة شخصيات وشيوخ من ديالى.