28 يناير 2024
على باب الخيّاط
مرتبكًا، كنت أنتظر دوري على باب محل الخياطة، أخفي تحت إبطي بنطالي الممزّق من الخلف، وفي ذهني وصايا أمي بضرورة ترقيعه قبل بدء العام الدراسي، لأن أبي لن يستطيع شراء بنطال بديل له.
كان مبعث ارتباكي، في الواقع، ليس الرّقعة بحد ذاتها، بل موضع الرقعة، ففي السنوات الماضية، كنت أكثر جسارةً على اقتحام باب الخياط، لأن الرّقع اختارت أمكنة أقل إحراجًا مما عليه هذا العام، تحديدًا، وأكثر ما كان يثير حرجي موقفي أمام الخياط، وأنا أبسط البنطال أمامه، لأشير إلى موضع الفتق في مؤخرة البنطال، متخيلاً ابتسامة الخياط الماكرة، وسخرية الواقفين خلفي في الطابور، وخصوصًا من زملاء المدرسة.
على هذا النحو، تعمدت أن أظل الواقف الأخير في الطابور، مقدّمًا كل زبون جديد عليّ، بذريعة "الاحترام والتبجيل"، وعلى قاعدة الاكتفاء بساخر واحد هو الخياط، فيما كنت أراقب رقع الآخرين بحسدٍ بالغ، خصوصًا إذا كانت على الأكمام أو الأكتاف (وهذه تحديدًا كانت رقعًا محببة لبعضٍ منهم، لأنها تذكّر بالرتب العسكرية، فيتعمدون وضع رقعة إضافية على الكتف السليمة، ليظهروا بهيئة الضباط). أما أنا فكانت رقعتي فضيحتي المؤجلة إلى حين مواجهة الخياط. لكن ما إن انتهى الطابور أمامي، وتأكدت من الفراع الممتد خلفي، وأوشكت على مواجهة الخياط، حتى فوجئت به يعلن انتهاء عمله في ذلك اليوم، ويغلق باب المحل. وحين رآني، طلب مني تأجيل "رقعتي" إلى اليوم التالي؛ لأن الوقت تأخر، وينبغي له العودة إلى بيته قبل أذان المغرب.
بقية الحكاية، تسردها أمي التي عنّفتني ذلك المساء على تلكؤي، وقرّرت أن تذهب بنفسها في اليوم التالي إلى الخياط، لتحسم أمر الرقعة.
عمومًا، لم تنته حكاية الرقعة، عند هذا الحد، فقد استمر مشهد الخياط وطابور الباحثين عن "الرّقع" منذ العام 1948، أعني منذ اليوم الأول الذي بات فيه العرب يلجأون إلى الخياط الفلسطيني لترقيع "فتوقهم" التي تتسع يوميًا. وأنا أحد هؤلاء، حين شاهدت على شاشة التلفاز أفواج شعب الجبارين يتدافعون عبر بوابات "الأقصى" وفوق أسواره، محطّمين البوابات الإلكترونية، ومقتحمين جموع الشرطة الإسرائيلية، وفي أعينهم شرر التحدّي المتطاير في كل أرجاء فلسطين.
في المقابل، كنت أنا أحد "جيران" الفلسطينيين المفتوقة كبرياؤهم بأحداث السفارة الإسرائيلية في عمّان. أعيش أزمة الحضيض الوطني الذي بلغته، مع غيري من الشعب الأردني، ونحن نرى دماءنا تهدر على يد مراسل سفارة أرعن، يمارس حقده كأنه داخل مستوطنته، لا على أرضٍ مجاورة، لأن كل الجغرافيات بالنسبة له عدوة، ما دام يقيم عربي عليها.
وفي خضم هذا الحضيض الذي كنت أحياه، شعرتُ بأنني عدت ذلك الولد المدرسيّ الذي يحمل بنطاله المفتوق، ويقف على باب هذا الخياط الفلسطيني، طالبًا منه "رقعة كبرياء"، يستطيع بها أن يواجه العالم من جديد.
وعلى باب الخياط الفلسطيني نفسه، كانت طوابير أخرى من شعوب عربية منكوبة بالفتوق المتنوعة تنتظر دورها، بخجل أو دونه، فالمهم لديها أن تجد رقعةً تعيد إليها توازنها، بعد أن رنّحتها النكبات، فبعضها كان يبحث عن رقعةٍ لرتق فتق العروبة الممزّق، وبعضها كان يبحث عن "رقعة ربيع" يداري بها ثوراته المختطفة، وكان آخرون يبحثون عن رقعة "وحدة"، بعد أن شاهدوا أن الحدث الفلسطيني وحده القادر على جمع قلوب العرب كلها، وليس جامعة الدول العربية التي تمتلئ بذوي الفتوق الخلفية غير المرقّعة، بل حتى الطغاة العرب كانوا يقفون في الطابور، بحثًا عن رقع لعروشهم التي باتت آيلة للانهيار، ويرون في تبني أي انتصار فلسطيني، مهما صغر، فرصةً لترقيع فضائحهم.
أما الخياط الفلسطيني الذي أنهكه ترقيع فتوق العرب فيوشك أن يقف على باب "أقصاه"، معلنًا أن "الدوام" انتهى إلى الأبد.
كان مبعث ارتباكي، في الواقع، ليس الرّقعة بحد ذاتها، بل موضع الرقعة، ففي السنوات الماضية، كنت أكثر جسارةً على اقتحام باب الخياط، لأن الرّقع اختارت أمكنة أقل إحراجًا مما عليه هذا العام، تحديدًا، وأكثر ما كان يثير حرجي موقفي أمام الخياط، وأنا أبسط البنطال أمامه، لأشير إلى موضع الفتق في مؤخرة البنطال، متخيلاً ابتسامة الخياط الماكرة، وسخرية الواقفين خلفي في الطابور، وخصوصًا من زملاء المدرسة.
على هذا النحو، تعمدت أن أظل الواقف الأخير في الطابور، مقدّمًا كل زبون جديد عليّ، بذريعة "الاحترام والتبجيل"، وعلى قاعدة الاكتفاء بساخر واحد هو الخياط، فيما كنت أراقب رقع الآخرين بحسدٍ بالغ، خصوصًا إذا كانت على الأكمام أو الأكتاف (وهذه تحديدًا كانت رقعًا محببة لبعضٍ منهم، لأنها تذكّر بالرتب العسكرية، فيتعمدون وضع رقعة إضافية على الكتف السليمة، ليظهروا بهيئة الضباط). أما أنا فكانت رقعتي فضيحتي المؤجلة إلى حين مواجهة الخياط. لكن ما إن انتهى الطابور أمامي، وتأكدت من الفراع الممتد خلفي، وأوشكت على مواجهة الخياط، حتى فوجئت به يعلن انتهاء عمله في ذلك اليوم، ويغلق باب المحل. وحين رآني، طلب مني تأجيل "رقعتي" إلى اليوم التالي؛ لأن الوقت تأخر، وينبغي له العودة إلى بيته قبل أذان المغرب.
بقية الحكاية، تسردها أمي التي عنّفتني ذلك المساء على تلكؤي، وقرّرت أن تذهب بنفسها في اليوم التالي إلى الخياط، لتحسم أمر الرقعة.
عمومًا، لم تنته حكاية الرقعة، عند هذا الحد، فقد استمر مشهد الخياط وطابور الباحثين عن "الرّقع" منذ العام 1948، أعني منذ اليوم الأول الذي بات فيه العرب يلجأون إلى الخياط الفلسطيني لترقيع "فتوقهم" التي تتسع يوميًا. وأنا أحد هؤلاء، حين شاهدت على شاشة التلفاز أفواج شعب الجبارين يتدافعون عبر بوابات "الأقصى" وفوق أسواره، محطّمين البوابات الإلكترونية، ومقتحمين جموع الشرطة الإسرائيلية، وفي أعينهم شرر التحدّي المتطاير في كل أرجاء فلسطين.
في المقابل، كنت أنا أحد "جيران" الفلسطينيين المفتوقة كبرياؤهم بأحداث السفارة الإسرائيلية في عمّان. أعيش أزمة الحضيض الوطني الذي بلغته، مع غيري من الشعب الأردني، ونحن نرى دماءنا تهدر على يد مراسل سفارة أرعن، يمارس حقده كأنه داخل مستوطنته، لا على أرضٍ مجاورة، لأن كل الجغرافيات بالنسبة له عدوة، ما دام يقيم عربي عليها.
وفي خضم هذا الحضيض الذي كنت أحياه، شعرتُ بأنني عدت ذلك الولد المدرسيّ الذي يحمل بنطاله المفتوق، ويقف على باب هذا الخياط الفلسطيني، طالبًا منه "رقعة كبرياء"، يستطيع بها أن يواجه العالم من جديد.
وعلى باب الخياط الفلسطيني نفسه، كانت طوابير أخرى من شعوب عربية منكوبة بالفتوق المتنوعة تنتظر دورها، بخجل أو دونه، فالمهم لديها أن تجد رقعةً تعيد إليها توازنها، بعد أن رنّحتها النكبات، فبعضها كان يبحث عن رقعةٍ لرتق فتق العروبة الممزّق، وبعضها كان يبحث عن "رقعة ربيع" يداري بها ثوراته المختطفة، وكان آخرون يبحثون عن رقعة "وحدة"، بعد أن شاهدوا أن الحدث الفلسطيني وحده القادر على جمع قلوب العرب كلها، وليس جامعة الدول العربية التي تمتلئ بذوي الفتوق الخلفية غير المرقّعة، بل حتى الطغاة العرب كانوا يقفون في الطابور، بحثًا عن رقع لعروشهم التي باتت آيلة للانهيار، ويرون في تبني أي انتصار فلسطيني، مهما صغر، فرصةً لترقيع فضائحهم.
أما الخياط الفلسطيني الذي أنهكه ترقيع فتوق العرب فيوشك أن يقف على باب "أقصاه"، معلنًا أن "الدوام" انتهى إلى الأبد.