على سبيل الجريمة الفكرية

10 ديسمبر 2015

مصطلح "جريمة الفكر" من أهم ما أنتجه جورج أورويل(Getty)

+ الخط -
كان من أهمّ ما تركه جورج أورويل، في ميراثه الأدبي، إنتاجهُ مصطلح "جريمة الفكر"، بطريقة ساخرةٍ سوداوية، إذ لم يترك سبيلاً لإعادة إنتاجهِ بطريقة جادّة ومقنعة في السياق السياسيّ والاجتماعي المعاصر. كان تجريم الفكر موجوداً، ولا يزال مُمارساً. لكن، ما عاد في وسع سياسيّ أو مثقف أن يتحدّث، صراحةً، عن الجريمة الفكرية. فرض أورويل على العالم أن يُبدع أسماءً أخرى لممارسة تجريم الفكر تحتها، أسماء ذات صلة بالأمن، الاستقرار، العدالة، الأخلاق، بكل ما هو نقيض تجريم الفكر، نقيض عالمه ومفرداته.
منحت الدولة العربية عملية تجريم الفكر اسماً بديعاً، "الأمن الفكري"، احتاجت إلى هذا المفهوم بشدة، عندما تفاقمت ورطتها في العقود الأخيرة بين الإرهاب والربيع العربي في الوقت نفسه. كان من الضروري بالنسبة لها أن تجد طريقةً، تعوّم فيها المفاهيم وتُضعف التمايُز بينها، وكان حتماً على هذا المساق، في النهاية، أن يقود هذه الدول التي ينطوي تكوينها على أزمة متعددة المستويات إلى توسع قائمتها للجرائم الفكرية (أو لضرورات الأمن الفكري) لتشمل بنوداً أخرى، لا تتعلق بالإرهاب فعلاً وفكرة، بقدر ما تتعلق بعلاقة المواطنين بالدولة، وعلاقاتهم ببعضهم وحتى بأنفسهم. حصّنت الدولة العربية موقفها بسيّالٍ رتيب ومُمِل من أدبيات "الأمن الفكري" ومؤتمراته الضخمة وهيئاته البحثية. لكن، حيثما تحدث منتجو هذه الأدبيات من الباحثين والكتاب العرب عن "الأمن الفكري"، حرصوا، في الوقت نفسه، على تجنّب الاستمرار في الحديث، وصولاً إلى باقي مفردات العالم الذي يتحقق فيه هذا الأمن: "الأمن الفكري" الذي يستدعي "الجريمة الفكرية"، والجريمة الفكرية التي تستدعي "قانون التفكير" وباقي المفردات أورويلية الطابع، كـ"شُرطة الفكر" و"مفتّشي الفكر" و "محاكمة الفكر"، والانتهاء إلى مُعاقبة الجسد الذي يحمل الفكر، حيث تستحيل الأفكار بطبيعتها على العقوبة. كما تجنبت أدبيات "الأمن الفكري" كليّة الخوض في المسائل العملية الدقيقة التي تمثل جوهر القضية الإنسانيّ والاجتماعي الشائك: من الذي يحدد الجريمة الفكرية؟ كيف يفرّق "الأمن الفكري" بين التصورات المختلفة في أذهان البشر المختلفين للفكرة نفسها؟ كيف يميّز بين الفضول تجاه الفكرة والإعجاب بها؟ وبين الإعجاب بالفكرة والقابلية لممارستها؟ وبين العلاقات الشخصية والعلاقات الفكرية؟ وبين الشخص ذي القناعات الصلبة والشخص رخو القناعات؟ كيف ينجح الأمن الفكري في منع التفكير؟ أو في فرض الفكرة؟ يُدخل "الأمن الفكري" الدولة
في امتحانٍ لا تملك الأدوات الهندسية لإجابته، لأنها لم تُخترع في تاريخ البشرية بعد، لا تملك الدولة الحديثة موسًى مرهفاً، تشرط بواسطته عَطَب المجتمع بدقة، وبلا أخطاء، إنها تمتلك، بدلاً عن ذلك، هراوة ضخمة يمكنها، إذا أصرّت الدولة على قسر المجتمع فكرياً، أن تُحدث رضّاً في الجسد الاجتماعي، فتُعطبه أكثر مما تعالجه، وتصل بهِ إلى نقطة يلتهم فيها الأمن الفكري باقي الأفكار، مهما كانت أرضيتها. لكن الدولة العربية تُصر على استخدام الهراوة، تتمسك باصطناع الغفلة وانتفاء القصدية، وهي تضرب بها هنا وهناك، فتُصيب أهدافها الـمُعلنة والمبطّنة وأشياء أخرى كثيرة على الهامش.
تُزهر في مؤسسات الدولة طموحات النزّاعين إلى تجريم الأفكار، ويتحول دور المؤسسات إلى تحديد الأفكار الشرعية وحراسة الأمن الفكري: تُسمي المؤسسة الدينية تجريم الفكر "احتساباً"، وتصرف وقتها في التفتيش في الكتب عن شبهات الإلحاد وعن أوهن الإيحاءات في الأسطر الشعرية، وتُسمي المؤسسة الإعلامية تجريم الفكر "رقابة"، وتستبعد كُتباً وكُتّاباً، وتمنع فعاليات وتغلق دور نشر، وتطال اللوثة عموم المجتمع الذي يبدأ في استشعار الهلع من فكرة "التفكير الحُر"، وفي الاقتناع بأن التجريم الفكري ضرورة اجتماعية، تحمي أصالته وتقاليده و"أسلوب حياته"، ولا ينجو بغيرها.
ما هو جوهري في الأمن الفكري والجريمة الفكرية، ليست الموضوعات التي يتم تجريمها، ولا على أي أساسٍ يتم التجريم. جوهر التجريم الفكري أنه مواجهة بين الفرد ومؤسسة الدولة، المؤسسة هي من يملك الأدوات القانونية والقهرية اللازمة لممارسة التجريم واحتكاره، حيث لا يمكن أن يمارسه غيرها، وقهر الفرد قبل أن يتم على أسس فكرية سياسية أو دينية، يتمّ على أساس قهر فرديته وتطويعها. وما هو فريد في الحالة العربية أن الدولة تشتهر بنموذجها ضعيف التمأسس عموماً، وبضعف الفاعلية والقدرة على الإنجاز، لكنها، عندما يتعلق الأمر بقضاياها الأمنية بشكلٍ عام، وبقضايا "الأمن الفكري" خصوصاً، فإن مؤسساتها تتميز بنجاحاتٍ أعلى بكثير، وانضباط وتمكّنٍ مدهشين، هذا الجزء فقط هو الذي تُفلح في مقاربتهِ من النموذج الشمولي الكامل الموجود في رواية أورويل.

avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع