31 أكتوبر 2024
على ماذا سيفاوضون إيران؟
لم تعد معرفة مآلات الصراع التفاوضي بين أميركا وإيران تحتاج نظريات تفسيرية لتوضيح احتمالاتها، فقد فككت الأحداث المتواترة حقول الألغاز التي سوّرت هذا الصراع، منذ بداية اشتداده قبل شهرين، ورسمت خريطة طريق واضحه له، لا يبدو أن أحداً بات غافلاً عنها سوى العرب الذين سيكونون ضحايا هذا التفاوض، والذي للمفارقة يجري بوساطة عُمانية.
أصبحت الحرب وراء الطرفين وتجاوزتها الوقائع، ولم يعد ممكناً حتى استخدامها ورقة في مواجهة إيران، بل أصبحت بذاتها إحدى نقاط الضعف الأميركي والغربي عموماً، فالتقديرات الغربية كلها تذهب إلى أن الحرب ستكون بمثابة خيار انتحاري، ليس لإيران، بل للغرب نفسه، وليس بسبب قوّة إيران العسكرية وإمكانية تدفيع الغرب خسائر تفوق طاقته على الاحتمال، بل لأن إسقاط النظام الإيراني سيُحدث فوضى عارمة في الإقليم. والأخطر، سينتج عنه طوفان من اللجوء إلى أوروبا، أين منه اللجوء السوري الذي لم تتعاف بعد من ارتداداته، وبذلك تتحوّل إيران إلى مشكلة غربية، بدلاً من كونها مشكلة شرق أوسطية. وكان الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، قد أدرك هذا الأمر باكراً، وعمل على حل إشكالية الغرب مع إيران، وإعطاء
الأخيرة الضوء الأخضر لإكمال مسيرتها بوصفها مشكلة شرق أوسطية.
حسناً، أين كانت تلك التقديرات الرصينة والعقلية الباردة في التعاطي مع الأزمة، قبل التورّط في رفع سقف التهديدات؟ في المنطق الدبلوماسي، عندما تطلق الدول الكبرى تهديداً ما بعمل عقابي ضد دولة أخرى، وخصوصا إن كانت قوّة من الدرجتين الثانية والثالثة، فإنه يتحتم عليها تنفيذ تهديدها، وإنزال العقاب المادي، ما لم ينصَع الطرف الآخر للشروط التي وضعتها، وإلا سيؤثر ذلك على هيبتها وقوتها ومصداقيتها الردعية، أو من الأفضل ألا يتم إطلاق التهديدات بشكل علني، وإيصالها عبر قنوات سرية بين الطرفين.
أثبت تاريخ الأزمات الدولية أن التهديد ثم التبريد سياسات فاشلة، وربما تشكّل فرصة للخصم لتطوير استراتيجيات المواجهة لديه، وهذا ما حصل بالنسبة لإيران التي يبدو أنها ستفرض خريطة للتفاوض، صممّتها من أخطاء الغرب، وستجبرهم على اتجاه وحيد في التعاطي معها، ذلك أن الخطأ الجسيم الذي ارتكبته إدارة الرئيس دونالد ترامب تمثّل بتوسيع قائمة الشروط التي ستفاوض إيران عليها، من دون حشد الموارد الكافية لدفعها إلى قبول التفاوض، ومن دون تحديد حدود التنازل المطلوب من إيران في لائحة تتجاوز عشر قضايا (أوراق) استطاعت إيران تجذيرها في السياسات الإقليمية والدولية.
إزاء ما يمكن تسميتها "فوضى" المطالب والشروط الأميركية، استخدمت إيران أسلوب
التموضع ضمن عناصر محدّدة، والتمترس فيها جيداً، وبناء قضايا متكاملة، ثم جعلها وجهة وحيدة للتفاوض. من ما زال يتذكر الشروط التفاوضية التي قدمها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو (قائمة 12 طلباً)؟ بل من ما زال يتذكر السبب الرئيسي للتوتر الذي كانت مياه الخليج ميدانه قبل أسابيع قليلة؟
استطاعت إيران مرّة جديدة حصر الغرب في التفاوض على قضايا من نوع تأمين سلامة النقل البحري والإفراج عن ناقلة بريطانية محتجزة في إيران مقابل الإفراج عن ناقلة إيرانية تحتجزها سلطات جبل طارق، أو التفاوض على تخفيض نسبة التخصيب والعودة إلى النسب المسموح بها. ومن المتوقع أن تطغى هذه العناصر التفاوضية على كامل مساحة التفاوض بين إيران والغرب، وأميركا من خلفه، وسيعني ذلك إسقاط بقية المطالب والشروط التي تشدّقت بها إدارة ترامب، وخصوصا النفوذ الإيراني في العراق وسورية، ما يعني ربحاً صافياً لإيران.
تدرك إيران أن لدى الدبلوماسية الغربية ثابتا في التفاوض مع إيران وإدارة الأزمات معها يتمثل في خوف الغربيين من أن يؤدّي الضغط على إيران إلى ترجيح كفّة المتشدّدين، وإزاحة المعتدلين عن مراكز صنع القرار، وقد استطاعت إيران ممارسة هذه اللعبة بطريقة ذكية جداً، كذلك اتباعها أسلوب تأجيج التوترات، بهدف توسيع الأزمة، وجر أميركا إلى الحوار، والخروج من المأزق الناجم عن الضغوط الأميركية القصوى.
هل خطّطت إيران لذلك كله؟ تنفي الوقائع والحيثيات هذه الإمكانية، فإيران تعاملت، منذ البداية، مع الأحداث من منطلق أزموي، لا تملك معه مساحة واسعة من الخيارات، لكن الأسلوب
الأميركي الفوضوي في إدارة الأزمة فتح لها مساراتٍ عديدةً، استطاعت توظيفها والاستفادة منها في سياق صراعها التفاوضي.
ما يعنينا في المنطقة هو معرفة الأضرار التي ستقع علينا في نهاية هذا الصراع التفاوضي، فالحرب تجاوزتها الأحداث، وأميركا ستدخل المعترك التفاوضي وبيدها الورقة الاقتصادية لا غير، فما هو الثمن الذي ستدفعه إيران، وما هو شرطها التفاوضي المقابل؟ مؤكد أن المفاوضات بين الطرفين ستكون سرية، إذ سيكون ممكناً للطرفين التوصل إلى نتائج ترضيهما عبر تبادل تقديم التنازلات، والالتقاء عند حلول وسط، تماماً كما حصل في المفاوضات التي أجريت في عهد إدارة أوباما، والتي ظهر في ما بعد وجود تفاهماتٍ سرّيةٍ سمحت لإيران بمد نفوذها في سورية، والحصول على ضوء أخضر للقضاء على الثورة السورية، بمعنى أنه ليست لدى الإدارات الأميركية مشكلة في دفع أثمان تفاوضها من كيس العرب، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل بقلق: على ماذا سيتم التفاوض هذه المرة؟
حسناً، أين كانت تلك التقديرات الرصينة والعقلية الباردة في التعاطي مع الأزمة، قبل التورّط في رفع سقف التهديدات؟ في المنطق الدبلوماسي، عندما تطلق الدول الكبرى تهديداً ما بعمل عقابي ضد دولة أخرى، وخصوصا إن كانت قوّة من الدرجتين الثانية والثالثة، فإنه يتحتم عليها تنفيذ تهديدها، وإنزال العقاب المادي، ما لم ينصَع الطرف الآخر للشروط التي وضعتها، وإلا سيؤثر ذلك على هيبتها وقوتها ومصداقيتها الردعية، أو من الأفضل ألا يتم إطلاق التهديدات بشكل علني، وإيصالها عبر قنوات سرية بين الطرفين.
أثبت تاريخ الأزمات الدولية أن التهديد ثم التبريد سياسات فاشلة، وربما تشكّل فرصة للخصم لتطوير استراتيجيات المواجهة لديه، وهذا ما حصل بالنسبة لإيران التي يبدو أنها ستفرض خريطة للتفاوض، صممّتها من أخطاء الغرب، وستجبرهم على اتجاه وحيد في التعاطي معها، ذلك أن الخطأ الجسيم الذي ارتكبته إدارة الرئيس دونالد ترامب تمثّل بتوسيع قائمة الشروط التي ستفاوض إيران عليها، من دون حشد الموارد الكافية لدفعها إلى قبول التفاوض، ومن دون تحديد حدود التنازل المطلوب من إيران في لائحة تتجاوز عشر قضايا (أوراق) استطاعت إيران تجذيرها في السياسات الإقليمية والدولية.
إزاء ما يمكن تسميتها "فوضى" المطالب والشروط الأميركية، استخدمت إيران أسلوب
استطاعت إيران مرّة جديدة حصر الغرب في التفاوض على قضايا من نوع تأمين سلامة النقل البحري والإفراج عن ناقلة بريطانية محتجزة في إيران مقابل الإفراج عن ناقلة إيرانية تحتجزها سلطات جبل طارق، أو التفاوض على تخفيض نسبة التخصيب والعودة إلى النسب المسموح بها. ومن المتوقع أن تطغى هذه العناصر التفاوضية على كامل مساحة التفاوض بين إيران والغرب، وأميركا من خلفه، وسيعني ذلك إسقاط بقية المطالب والشروط التي تشدّقت بها إدارة ترامب، وخصوصا النفوذ الإيراني في العراق وسورية، ما يعني ربحاً صافياً لإيران.
تدرك إيران أن لدى الدبلوماسية الغربية ثابتا في التفاوض مع إيران وإدارة الأزمات معها يتمثل في خوف الغربيين من أن يؤدّي الضغط على إيران إلى ترجيح كفّة المتشدّدين، وإزاحة المعتدلين عن مراكز صنع القرار، وقد استطاعت إيران ممارسة هذه اللعبة بطريقة ذكية جداً، كذلك اتباعها أسلوب تأجيج التوترات، بهدف توسيع الأزمة، وجر أميركا إلى الحوار، والخروج من المأزق الناجم عن الضغوط الأميركية القصوى.
هل خطّطت إيران لذلك كله؟ تنفي الوقائع والحيثيات هذه الإمكانية، فإيران تعاملت، منذ البداية، مع الأحداث من منطلق أزموي، لا تملك معه مساحة واسعة من الخيارات، لكن الأسلوب
ما يعنينا في المنطقة هو معرفة الأضرار التي ستقع علينا في نهاية هذا الصراع التفاوضي، فالحرب تجاوزتها الأحداث، وأميركا ستدخل المعترك التفاوضي وبيدها الورقة الاقتصادية لا غير، فما هو الثمن الذي ستدفعه إيران، وما هو شرطها التفاوضي المقابل؟ مؤكد أن المفاوضات بين الطرفين ستكون سرية، إذ سيكون ممكناً للطرفين التوصل إلى نتائج ترضيهما عبر تبادل تقديم التنازلات، والالتقاء عند حلول وسط، تماماً كما حصل في المفاوضات التي أجريت في عهد إدارة أوباما، والتي ظهر في ما بعد وجود تفاهماتٍ سرّيةٍ سمحت لإيران بمد نفوذها في سورية، والحصول على ضوء أخضر للقضاء على الثورة السورية، بمعنى أنه ليست لدى الإدارات الأميركية مشكلة في دفع أثمان تفاوضها من كيس العرب، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل بقلق: على ماذا سيتم التفاوض هذه المرة؟