علي الشرايبي: عمّال بالأبيض والأسود

05 أكتوبر 2015
(من أعمال المعرض)
+ الخط -

شكّل موضوع الإنسان في علاقته بالآلة، كمرادف لجبروت الرأسمالية وسيطرتها، إحدى الموضوعات الأكثر جسارة وتراجيدية التي سعت الفنون إلى نقل بعض صورها الممعنة في الحط من قيمة الإنسان الحديث والمعاصر وإهانة كرامته.

ومنذ نشأتها، برعت السينما في تحويل هذه المعاناة إلى مادة فيلمية كشفت -بغير قليل من التنويع الفني- حجم الألم الذي بات يسبّبه هذا الوسيط الصناعي الإنتاجي المستحدث للإنسان، والذي عِوَض أن ييسّر له مشاق إنتاج وتوفير الثروة ومضاعفتها، تحوّل إلى مرادف لاسترقاقه ومضاعفة معاناته.

ويظل فيلم " الأزمنة الحديثة" لـ شارلي شابلن، من أفضل من عبّر في قالب هجائي ساخر عن هذه العلاقة الإشكالية الطارئة بين الإنسان والآلة من خلال تعرية أوجهها البشعة، كأحد الأعمال السينمائية الخالدة التي تناولت بالنقد اللاذع هذا الموضوع، مما بوّأه مكانة خاصّة في تاريخ الذاكرة البصرية السينمائية.

وعلى الرغم من المساحة الزمنية التي تفصلنا عن تاريخ إنجاز هذا الفيلم (ما بين سنتي 1933 و1936)، إلا أن موضوعه بقي يشكّل مادة فنية تستأثر باهتمام عدد غير يسير من الفنانين في بقاع كثيرة من العالم، سواء عبر وسيط الصورة المتحركة والثابتة أو عبر ما تتيحه إمكانات النصوص المسرحية والسردية والشعرية الفنية والجمالية على حد سواء، مما يؤكد، مرة أخرى، على راهنيّته، في زمن تطوّرت فيه العبقرية الإنتاجية البشرية، بما أفرز أنماط إنتاج ومنتجات صناعية وتكنولوجية متطوّرة، وسّعت من هامش استرقاق الإنسان وزادت من خضوعه.


في هذا السياق، واستثماراً في هذه الرؤية النقدية، يندرج معرض الفنان الفوتوغرافي المغربي علي الشرايبي (1965) الأخير "العودة إلى العصر الحديث".

معرض يراهن فيه على إعادة مساءلة هذه العلاقة غير المتكافئة بين الإنسان والآلة -عربياً هذه المرّة- عبر مشروع فني عالج أول ملامحه منذ ما يقارب عشرين سنة خلت، وهو المشروع الذي يعكس جانباً من بؤس الإنسان – العامل المغربي داخل أحد المصانع المغربية.

تكمن أهمية هذا المعرض، الذي يؤرّخ لحياة مجموعة من العمّال البسطاء، في كونه يحكي، عبر صور فوتوغرافية حاذقة وذكية، قصة العمل، عبر سلسلة من الوضعيات والمواقف والحالات الإنسانية القاسية، التي تعكس طبيعة الإنسان المستسلم لهدير الآلة ولاشتراطاتها، وهو يسعى إلى تحصيل قوت يومه.

إنها صور تحاول أخذ عين المتلقي إلى ذلك التداخل العضوي القاسي والمؤلم الذي أفرزته علاقة الإنسان بالآلة، بما هي علاقة غير متكافئة ولا إنسانية، يسعى كل طرف فيها إلى فرض إملاءاته -بالقدر الذي يكرّس قوة هذا الطرف على الطرف الآخر- فيما تظهر الغلبة واضحة لصالح لآلة، وقد صار الإنسان منقاداً لرتابتها، مستسلماً لإيقاعاتها المنتظمة، حيث يظهر في الصور مجرّداً من إنسانيته فارغاً من أحاسيسه ومشاعره الطبيعية، مستلب القوة والإرادة والفعل الخلاق.

 ومما يدعم أفق آلية التأويل النشطة نحو هذه الوجهة، كون الفنان حرص على معالجة صوره بتقنية إخراج بقيت وفية للونين الأبيض والأسود، ما يعطي لأعماله هالة تراجيدية مضاعفة، تشي بغير قليل من المشاعر المنكسرة والألم الواضح.

فبالإضافة إلى خصوصية موضوعاته وطرافتها، لا يسعى الشرايبي إلى إضفاء مسحة فنية زائفة عما تلتقطه عينه النبيهة، سواء عبر إجراء بعض الرتوشات الخادعة والمموّهة، أو عبر اللجوء إلى تقنية الفوتوشوب لإضافة مؤثرات غير موجودة في الواقع، مفضّلاً تسخير ذائقته الفنية من أجل نقل دقيق، وحرفي، للواقع.

من هنا، يظهر ذلك الحس المأساوي واضحاً في كل أعمال هذه التجربة، وهي أعمال تقوم على مبدأي التعرية والكشف، بما هما فعلان يزيلان الغشاوة المموّهة عن الأعطاب التي تتسبّب فيها الآلة للإنسان الهش المستسلم لعزلته ولقدره.

وفي هذا السياق، لا يمعن الفنان البحث في ما يعتبر مشاهد عامة ومشتركة، بقدر ما يلجأ إلى اقتناص لحظات وتفصيلات جانبية من هذا العالم الرمادي، قد لا تثير انتباه العين الكسولة وغير النبيهة، التي اعتادت على مراكمة الصور والمشاهد النمطية في حياتها اليومية المستنسخة.

يتواصل معرض "العودة إلى العصر الحديث"، الذي يحتضنه "رواق عنبر" في مدينة الدار البيضاء حتى 17 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، وكان قد افتتح في 17 أيلول/ سبتمبر.

ما يحسب لـ الشرايبي هو أنه أطلق عدسته لتأتي بصور تنم عن إحساس إنساني رفيع وغير متكلف، كما أنه يسعى، دون ادعاء كاذب ولا استغلال ساذج ومجاني لفئة معيّنة من فقراء المغرب، إلى إطلاع الجمهور المديني المتأنق على واقع وأوضاع كائنات استثنائية، فقدت حرارة إنسانيتها أمام جبروت الآلة وبرودة حديدها، وهي أحاسيس كان قد نقلها إلينا شابلن، ذات سينما سوداء وصامتة.