يذكُر الموسيقي الإيراني علي بياني أنه ألقى محاضرة، ذات مرّة، في إحدى الجامعات الألمانية، تحدّث خلالها عن الأثر الذي تتركه الموسيقى، الكلاسيكية بشكل عام والإيرانية بشكل خاص، على نفسية الإنسان، وعن العالم المتخيَّل الذي تستطيع سحب المستمع إليه، قدّم بعدها قطعة موسيقية وترية إيرانية، وبعد أن فتح عينيه اللتين أغلقهما أثناء العزف، فوجئ من تفاعل كل الحاضرين في تلك القاعة، فقد أغلقوا عيونهم وقرّروا عيش التجربة التي وصفها لهم خلال محاضرته، وهذا كان كفيلاً بأن يشعر بالنجاح، كون موسيقاه الإيرانية حملت هؤلاء إلى مكان آخر.
وإن كانت الموسيقى الكلاسيكية الإيرانية قد أثّرت في أذن غريبة عنها، فقد كان لها حضور جوهري في الحياة اليومية للمجتمع الإيراني وثقافته من العصور القديمة إلى حياة السلاطين والملوك. وما وصلنا من منمنات تؤكّد على أهمية هذا الفن، وهو الذي يحضر إلى اليوم في حياة الإيرانيين عامّة، وإن تغيّرت كثيراً علاقتهم به.
يحاول عدد من الموسيقيين الإيرانيين اليوم أن يربطوا بين هذا التاريخ والحاضر الفني لبلدهم. بياني هو أحد هؤلاء الموسيقيين، وهو الذي لا يعتبر نفسه عازفاً، وإنما يُعرّف نفسه كموسيقي وكمعلّمٍ للموسيقى الإيرانية الكلاسيكية، فقد أخذ هذا الرجل على عاتقه مشروع إحيائها بين الجيل الشاب. تجاوز بياتي العقد الخامس من عمره، وكان قد تخرّج من كلية الفنون الجميلة التابعة لجامعة طهران، وبدأ بتعلّم الموسيقى الإيرانية الكلاسيكية.
يقول في حديث إلى "العربي الجديد": "إن الموسيقى ليست فناً فحسب، وإنما هي فكر وثقافة. لطالما تأثّرت الموسيقى الإيرانية بالعوامل السياسية والاجتماعية على مرّ العقود، فتطوّرت أحياناً، وتراجعت في أحيان أخرى، رغم أنها احتفظت بمكانتها التراثية".
تعلّم بياني، منذ سنواتٍ، العزف على معظم الآلات الموسيقية الإيرانية المستخدَمة في الموسيقى الكلاسيكية، كما بدأ في إجراء أبحاث حول تاريخ هذه الموسيقى وأهمّيتها في حياة الإيرانيين، كما يقول.
يكشف أنه تتلمذ على يد أحد أبرز الموسيقيين الإيرانيين، وهو محمد رضا لطفي، الذي علّمه العزف الوتري، وهو ذاك النوع من العزف الرائج في بلاد القوقاز وأفغانستان وطاجيكستان وأذربيجان، وحتى أرمينيا وجورجيا، ولمّا أخذ على عاتقه مهمّة زيادة معلوماته ودراساته الأكاديمية حول الموسيقى، بات المسؤول الأول عن مجموعة البحث والدراسات المتعلّقة بالموسيقى الخراسانية، وكان هذا في معهد بحوث الثقافة الإيرانية.
يضيف بياني أنه ترأّس كلية علوم الموسيقى الكلاسيكية الإيرانية في جامعة طهران، وكانت فرصة بالنسبة إليه ليقدّم ما لديه لطلابه، فالموسيقى كما يقول "ليست مجرّد عزف يتم تعليم طرقه وتقنياته للراغبين بذلك". أصبح بياني عضواً في اللجنة العليا المشرفة على الموسيقى في إيران والتابعة لوزارة الثقافة، كما عمل محكّماً، وترأّس مهرجان "فجر الموسيقى الدولي" لعدّة دورات. تجربة التحكيم هذه أضافت له الكثير، كونه شارك في مهرجانات عديدة داخل إيران وخارجها.
لم يكتفِ بياني بتدريس الموسيقى الإيرانية التي أتقن العزف على غالبية آلاتها، ولا بتقديم المحاضرات عن الموسيقى الكلاسيكية الإيرانية، ولكنه بدأ بتقديم أبحاثه للموسيقيين في العالم، وهي التي تركّز بشكل أساسي على الدور الذي تستطيع الموسيقى الشرقية الإيرانية لعبه في حياة الإنسان، فقدّم محاضراته في عدد من الجامعات الأوروبية والآسيوية.
"كم من الجميل أن تلاحظ تفاعل الآخرين مع الموسيقى الإيرانية التي تعتبر غريبة عن كثيرين"؛ هكذا أجاب بياني على سؤال يتعلّق برد فعل من يقدّم لهم الموسيقى الإيرانية في الخارج، مضيفاً أن الموسيقى يجب أن تكون جزءاً من الحياة اليومية، وألّا تظلّ جزءاً من التراث، فلطالما كانت الموسيقى الإيرانية الكلاسيكية جزءاً من حياة الإيرانيين في القدم، إلّا أن هذا تراجع منذ عهد القاجاريين الذين حكموا إيران قبل الأسرة البهلوية وقبل مجيء الجمهورية الإسلامية.
"لتحقيق هذه الغاية، يجب أن يُبدي الموسيقيون الإيرانيون رغبة جدية في الوصول إلى هذا الهدف"، حسب قوله، "كما يجب أن يعلّموا تلاميذهم أن الموسيقى خليط من الثقافة والحكمة، ودون هذا فلن تصل الموسيقى الإيرانية الكلاسيكية الحقيقية إلى مسامع العالم، ولن تكون إيران قادرة على إحيائها والحفاظ عليها، فعلماء إيران القدامى كانوا فلاسفة وأطباء وموسيقيين في آن واحد".
في سؤال عن وضع هذه الموسيقى في الوقت الحالي في إيران نفسها، قال بياني "إن مشروع إحياء الموسيقى الكلاسيكية الإيرانية لا يتعلّق فقط بتعليمها لمن يهواها، فهذه الموسيقى انحصرت اليوم بالنخبة، وهؤلاء من المثقفين والفنانين".
يضيف بأنه لاحظ نمو حركة حقيقية معنية بإحياء هذه الموسيقى خلال العقد الأخير، وهذا تزامن مع تزايد عدد الشباب الإيراني المتعلّم، فبدا واضحاً اهتمام الجيل الشاب أكثر من الجيل الأكبر سناً بالهوية الموسيقية لبلدهم، وهذا كفيل بتحويل الموسيقى الكلاسيكية الإيرانية إلى موسيقى للجميع، وألا تبقى محصورة في طبقة النخبة، حسب رأيه.
مع هذا، يشير بياني إلى "حاجة الموسيقى الإيرانية إلى جوّ من الحكمة والعرفان"، مؤكداً كذلك على "ضرورة تعريف الكل بالفوائد النفسية والمعنوية لهذه الموسيقى"، وكان هذا أحد المواضيع التي شغلت باله خلال السنوات الماضية، وهو ما خصّص له دراساته الأخيرة.
حوّل بياني منزله إلى معهد موسيقي، يقدم فيه دروساً بأسعار رمزية للشباب الراغبين في تعلّمها، وليس لأولئك الذين يدرسون الموسيقى في الجامعات والأكاديميات. يخصّص العازف لكل واحد من هؤلاء وقتاً خاصاً يحب أن يكون غير محدود، فيتحدّث معه عن أهمية الموسيقى ويؤكّد له على ضرورة أن يكون كل واحد فيهم عالماً وملمّاً بالعديد من جوانب الحياة ليكون موسيقياً إيرانياً حقيقياً.
يقول بياني إن مشروعه هذا ليس الوحيد، وإنما هناك عدد آخر من الفنانين والموسيقيين الإيرانيين الذين أخذوا على عاتقهم، خلال السنوات الأخيرة، تبنّي مشاريع شبيهة لإحياء الموسيقى الكلاسيكية الإيرانية داخل البلاد، قائلاً إن الموسيقى تحقّق التوازن بين الجسد والروح، وفي حال انتشارها في كل المجتمع، فلن يعود هذا بالفائدة على الموسيقى الإيرانية وحسب، وإنما سيكون الكل قادرين على الاستمتاع بها وسيقرّرون المشاركة بمهمة حفظ تاريخ بلادهم، كما يقول.
بالفعل، بدأ عدد من طلاب بياني بتبنّي المشروع ذاته في مدنهم وقراهم، وهذا عبر تشكيلهم لحلقات وعقدهم لجلسات يعزفون خلالها الموسيقى ويعلّمون من يرغب في تعلّمها، ويجعلون الكل يتفاعل معها، كما يعرّفونهم بفوائد الموسيقى وبوجودها الدائم في حياة الإيرانيين سابقاً.