دفع المثقفون السوريون المعارضون ثمناً مضاعفاً. فرغم تخليهم عن كل شيء استجابة لنداء ضميرهم وثورة شعبهم، فإنهم لم يجدوا لهم متسعاً في المؤسسات المعارضة التي سكنها "الهواة" فذاقوا الفقر وعانوا العوّز وبدل معظمهم مهنته لضمان لقمة العيش.
الكاتب السوري، علي سفر، قال لـ"العربي الجديد": لست نادماً على موقفي، وكل ما عانيت وأسرتي عبر هروبي من دمشق إلى الأردن، ثم إلى تركيا، بل ولو أعيد التاريخ مئة مرة، لاخترت الشعب والمعاناة وسورية ووقفت ضد طغيان الأسد، وقتله للمواهب وللسوريين". وإلى نص المقابلة:
*ما هي الأثمان التي دفعها المثقف المعارض في واقع غياب الحواضن الثقافية وعدم تلقفه من مؤسسات المعارضة أو الدول التي هاجر إليها؟
الأثمان مهما كبرت أو صغرت، يكفي أنها تتحدد بالغياب عن البلد، ليكون هذا المثقف أو ذاك قد وقع في الثقب الأسود الذي يحاول أو لابد أن يحاول الخروج منه. هنا في حالة المثقف السوري ثمة واقع سيء أصلاً، ففي البلد كان غياب المنابر الثقافية جزءاً من مشكلة الثقافة السورية، وكانت سيطرة النظام على المؤسسات الثقافية جزءاً أخر، ولهذا كانت توقعات المثقف، بحمولة إيجابية ستقدمها له مؤسسات المعارضة، كبيرة، ولكن هذه المؤسسات ظهرت، وهذا واقع لا نفتري فيه على أحد، أقل بكثير حتى من واقع الحال الأصلي في البلد...!
لقد كنت أعمل كما غيري في مؤسسات الدولة التي كنا نعبر عن الغضب من رداءتها، ولكن ماذا لدينا لنفعله سوى الغضب أيضاً حيال مؤسسات معارضة يفترض بها أن تقدم النموذج الأفضل، ولكنها لم تنجز أي شيء حتى اللحظة سوى الوعود للمثقفين الذي تأملوا فيها خيراً؟
في سورية كان المثقف صاحب الكلمة يتحايل على تأمين رزقه عبر ممارسة أعمال متعددة كي تسند معيشته وتعينه على الاشتغال على مشاريعه، ولكن في عالم المنفى أنت لا تملك سوى مشاريعك وأحلامك، ولعل الفاجعة تتكرس حين يكون مشروعك وحلمك الإبداعي مرتبط بالثورة، ولا تجد أي مؤسسة "ثورية" تدعمك أو تساعدك على تأمين معيشتك! وحين تفكر بأن هذا واقع مئات المثقفين، لابد أنك ستقول هذه كارثة.
*كيف انعكس موقفك السياسي المعارض على دخلك وواقع معيشتك؟
أنت تعلم أننا كنا نعمل في مؤسسات الدولة، وأننا كنا نعمل بأعمال إضافية كي نحقق معيشة لائقة بأولادنا، ولكن هذه الأعمال كانت تتوقف يوماً بعد يوم، ومن ناحيتي الشخصية حين كنت في الداخل، وإلى لحظة خروجي من سورية كانت الأمور بخير، فأنت تعلم أن السوريين اعتادوا أن يدخروا للأيام الصعبة، ولهذا كنت أستقوي على الواقع الذي فرض علينا بالمدخرات، التي كانت تتلاشى يوماً بعد يوم، وخاصة أنني، كغيري من السوريين، كنا نقوم بأعمال الإغاثة الأهلية مما نملك، وهذا الأمر ذاته عرضنا للمتابعة الأمنية، ومع تفاقم الوضع الأمني واستمرار التضييق على السوريين من قبل النظام، وصلنا إلى مرحلة الاعتماد الكامل على الراتب الذي لا يكفي سوى لعدة أيام.
وطبعاً لم يكن هناك من إمكانية للكتابة في الصحف والمجلات العربية، إذ إنك لا تستطيع أن تكتب فيها أي شيء قد يعرضك للمساءلة الأمنية.
*ماهي أصعب مواقف مالية عشتها بعد انشقاقك وهروبك من القتل؟ هل وصلت لدرجة الاستدانة وضغط النفقات الأساسية؟
حصل هذا منذ اللحظات الأولى للخروج من سورية، ولكن الأصدقاء في الأردن الذي استقبلني لم يقصروا معي أبداً، بل كانوا مثالاً للشهامة، فقد سارعوا إلى تأمين بعض المصاريف التي أعانتني، وكذلك سعوا إلى تأمين فرص للكتابة بما يؤمن بعض الموارد المالية، حصل هذا معي ولكنه لم يحصل مع غيري، إذ لم يكن هناك أي مؤسسة تقوم بمساعدة المثقفين السوريين، ولهذا كنت أرى الزملاء وهم يبحثون عن فرص عمل تقيهم شر السؤال، ومع الوقت ومع الخروج من منفى إلى آخر، كان شبح الإفلاس يطل من جديد، ولهذا كنت مضطراً للقبول بالعمل الإعلامي ضمن شروط غير لائقة، ولكني سرعان ما كنت أغادر بسبب لا مهنية المؤسسات التي تسمى "الإعلام البديل"، والتي يقوم على أغلبها أشخاص ليس لهم أي علاقة بالمهنة، سوى أنهم ينشطون مع المؤسسات المانحة التي أوغلت في دعم غير المختصين، وكأنها كانت تنفذ مخططاً مدروساً.. لتخريب واقع الإعلام الجديد. لقد عشت لحظات عصيبة لا أريد الحديث عنها. أكتفي بما قلت.
*هل وجدتم استغلالاً للكفاءات والأسماء الثقافية مما سميّ "مؤسسات إعلامية معارضة" يصفها البعض بالدكاكين؟
لو جاز لنا أن نسمي ما قاموا به معي ومع غيري بالاستغلال الحقيقي للكفاءات، بمعنى أن يستفيدوا منها بأقصى الإمكانيات، لكان وضع الإعلام البديل بخير، ولكنهم في الحقيقة لم يروا في أصحاب الخبرة أي فائدة لمؤسساتهم، فهذه المؤسسات التي تدار بعقلية الدكاكين، كان القائمون عليها يرون في أصحاب الخبرة خطراً عليهم، إذ لا يمكن للإعلامي المحترف أن يخضع لسياسات تحريرية غير مهنية، وسيحاول أن يعمل ما أمكن على أن تكون هذه المؤسسات احترافية، ولكن واقع الحال الذي فرضه المتمولون كان يذهب عكس هذا، ولهذا عشت شخصياً تجربتين مارست فيهما دوراً قيادياً في مؤسستين، واحدة تلفزيونية وأخرى إذاعية، وخرجت من التجربتين بقناعة أن أصحاب الدكاكين الإعلامية هم أحد أسباب فشل الثورة في صناعة صورة إعلامية حقيقية لها.
*علي سفر من قلائل واصلوا التأليف والنشر بعد الثورة، حيث أصدر كتابين خارج سورية... كيف طبعت ووزعت؟ وهل ثمة تبني لمشروعاتك الثقافية أم تراك مولت الكتب بالاستدانة؟
من حسن حظي أنني، وفي زمن الثورة، أصدرت كتابين تم تبنيهما من مؤسستين محترمتين، ولكن هذه التجربة هي تجربة شخصية، وليست عامة، لأنك لن تجد مؤسسة ثورية تقوم بدورٍ مهم في سبيل مساعدة الكتاب السوريين على طباعة كتبهم.
*رغم كثرة المشروعات الثقافية والإعلامية الممولة من "أصدقاء سورية" إلا أن أسماءً بارزة بلا عمل حتى الآن، هل من شللية وشروط في تلك المشروعات؟
نعم هناك شللية، وهناك علاقات عصبوية يتم من خلالها تنفيذ مشاريع كهذه، وإذا أردت أن أصارحك سأقول إن هناك نفاقاً وكذباً، وهناك سيراً شخصية لأشخاص باتوا مهيمنين تمت كتابتها بشكل مخادع، ولم يتم التدقيق فيها، وهناك سيراً شخصية استندت إلى ظهور في زمن الثورة تم استغلاله لاحقاً لجني مكاسب من نوعٍ ما، دون وجود لتجربة حقيقية قبلها، وأصحاب هذه السير باتوا يتحكمون بمصائر مثقفين حقيقيين وإعلاميين متمرسين، انكفأوا عن المشهد وباتوا أسرى لكآبة مزمنة.
كما أن المؤسسات التي شكلتها المعارضة إن كان في الائتلاف أو في الحكومة المؤقتة لم تصنع بيئة احتضان للمثقفين بل طردتهم، وباتت مليئة بالمدعين والكاذبين والمنافقين الذين يصفقون لها دون أن تقوم بإنجاز أي شيء عليه القيمة.
*كيف ترى واقع العمل الثقافي والإعلامي المعارض، وخاصة أن البعض يقول إن القائمين عليه من خارج المهنة وليسوا "أولاد الكار"؟
هناك رغبة من قبل بعض القائمين على مؤسسات المعارضة بإصلاح الواقع السيء ولكن الأمور لا تقوم بالرغبات، وأصلاً لا أدري إلى أي حد يمكن لمؤسسات المعارضة الرسمية أن تتدخل في عشرات المؤسسات الإعلامية الرديئة التي لا ترى منها وفيها سوى أنها "سبوبة" لترزق القادمين من خارج الكار، ولكن لمَ لا يقوم الائتلاف أو الحكومة المؤقتة بإنشاء مؤسسات ثقافية إعلامية احترافية تقوم على مختصين لا يعملون أي شيء الآن سوى الانتظار؟
لماذا يجب على المثقف والإعلامي السوري أن ينتظر التماعة وعي برأس هذا القيادي، في المعارضة، أو ذاك، كي يستقيم الوضع كما يجب؟ هل أعلن هؤلاء المثقفون الانتماء إلى الثورة ليكونوا أسرى نوازع أفراد وتيارات سياسية تسيطر على القرار، ولا تدري من معنى الثقافة والإعلام سوى التطبيل والتزمير؟