بدّدت عملية تل أبيب، مساء الأربعاء الماضي، الوهم الذي حاول زرعه كل من رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، وأجهزة الاحتلال المختلفة، وتقارير الصحافيين بشأن انخفاض وتراجع الهبّة الفلسطينية في الأراضي المحتلة. وأتت هذه العملية لتؤكد أن الشعب الفلسطيني لم يستسلم، وهو ما دفع الصحافية، سيما كدمون، إلى الاعتراف بشكل لافت بأن الإسرائيليين يعيشون في الواقع على فوهة بركان، يهدأ أحياناً ويثور أحياناً أخرى. وانشغل المحللون العسكريون في مسألة خيارات إسرائيل في مواجهة المعادلة الجديدة، والمتمثلة أولاً بتحوّل الانتفاضة والهبة الفلسطينية من عمليات الطعن في السكاكين، التي سادت بشكل خاص في الأشهر الأخيرة، في منطقة الخليل، إلى عمليات إطلاق النار، لا سيما في قلب الأراضي المحتلة، مع وجود "مخزون وافر" من الناشطين الفلسطينيين الذين يتمكنون من التسلل إلى إسرائيل للعمل فيها من دون تصاريح ومراقبة، ويطلق عليهم بالعبرية تعبير "شباحيم" والتي تعني في تعبير مجازي "أشباحاً"، في إشارة إلى عدم قدرة الاحتلال على وقف هذه الظاهرة.
وفي هذا السياق، يرى هرئيل أن اللجوء إلى عمليات من نوع جديد توقع إصابات أكبر بات يمثل توجهاً لافتاً لدى الفلسطينيين في الفترة الأخيرة، وذلك على ضوء الحجم المتدني من الإصابات في الطرف الإسرائيلي التي أوقعتها عمليات الطعن، مقابل الثمن الباهظ في الجانب الفلسطيني.
ويقر كثير من المعلقين في الصحافة الإسرائيلية بأن عملية تل أبيب تشكل امتحاناً لسياسة وزير الأمن الجديد أفيغدور ليبرمان، بعدما اعتاد، حتى عندما كان وزيراً في الحكومة السابقة، إطلاق تصريحات وتحذيرات، كان يدرك أنها لن تترجم ما دام بعيداً عن دائرة القرار الفعلي. ويرى عمير رابابورط أن الامتحان سيكون أيضاً لرئيس الشاباك الجديد، نداف أرجمان، لكنه يشير إلى أن الخطوات المقبلة، والتوصيات التي ستصدر عن المشاورات الأمنية، لن تأتي عملياً بأي جديد، ولن تفضي إلى تحول كبير في السياسة الإسرائيلية، لأن كل ما يعلن عنه من خطوات عقابية أو إجراءات متشددة جديدة لن تختلف عن سابقاتها، لا سيما أنه تمت تجربتها في السابق.
في المقابل، يبدو الكاتب رون بن يشاي في موقع "يديعوت أحرونوت"، الوحيد الذي يعوّل على سياسة الطوق الأمني المحكم على قرية يطا، التي جاء منها منفذا عملية تل أبيب، أبنا عائلة مخامرة. ويقول بن يشاي في هذا الصدد، بعد استعراضه للطوق الأمني المماثل الذي فرضه الاحتلال قبل خمس سنوات على قرية عورطا، جنوبي نابلس، بعد عملية مستوطنة إيتمار، إن الطوق على يطا يهدف بالأساس إلى توجيه رسالة واضحة لسكان القرية حول دلالات وتبعات العقاب الجماعي المفروض عليهم لدرجة المسّ ليس فقط بحريتهم في حياتهم اليومية وإنما أيضاً كأداة اقتصادية لضرب مجمل السكان في البلدة، وبالتالي يتوقع الكاتب أن يدوم هذا الطوق طويلاً. ويرى أن هناك من سيعتبر هذا الطوق نوعاً من العقاب الجماعي، في حين سينظر إليه أخرون باعتباره وسيلة ردع للمستقبل، وسيعتبره الآخرون نوعاً من التغيير في توجه الجيش بما يتناسب مع توجهات وزير الأمن الجديد، وهو ما يرجح استمرار هذا الطوق لوقت طويل.
ويعترف رون بن يشاي بأنه على الرغم من نجاح النشاط المكثف لأجهزة الأمن الإسرائيلية في إحباط عمليات فلسطينية، إلا أنه لن يحول، في نهاية المطاف، دون نجاح بعض الفلسطينيين في تنفيذ عمليات مشابهة لعملية تل أبيب في المستقبل. ويرى بن يشاي أن التحدي الأكبر أمام إسرائيل هو في منع عمليات "تقليد للعملية الناجحة"، معتبراً أن الحل يكمن في تكثيف وجود وحضور قوات الأمن في الحيز الإسرائيلي العام، وأن يكون هذا الحضور لقوات الأمن في الأراضي المحتلة بارزاً، كما في المدن والبلدات الإسرائيلية، لأن ذلك كفيل بردع الفلسطينيين عن تنفيذ العمليات ويردع أيضاً عناصر يهودية متطرفة قد تفكر في تنفيذ عمليات انتقامية.
استنزاف عوائل الشهداء ومنفذي العمليات اقتصادياً هو خيار يبدو أن الأجهزة الإسرائيلية بدأت تعتمده بعد عملية تل أبيب، لا سيما في تعاملها مع عائلة مخامرة في يطا، بحسب ما يشير إليه الصحافي فيشمان. إذ يقول إن السياسة الجديدة في التعامل ليس فقط مع الأقارب من الدرجة الأولى، يوحي بطريقة تعامل جديدة، تقوم على حرمانٍ من تصاريح العمل وحرية التنقل، وبالتالي إبقاء أبناء يطا في حصار داخل البلدة، من دون القدرة على إعالة أنفسهم، وهو عقاب يبدو، بحسب فيشمان، أشد وطأة على مجمل أقارب منفذي العمليات من سياسة هدم المنازل، علماً بأن الحكومة الإسرائيلية أقرت أيضاً هدم منازل منفذي عملية تل أبيب.
وفي هذا السياق، إن إعلان وقف وإلغاء تصاريح السماح لـ83 ألف فلسطيني من الدخول للقدس وزيارة الأقارب داخل أراضي 48 يأتي أساساً لإرضاء اليمين الإسرائيلي ولاستباق موجة احتجاجات عارمة في صفوفه من جهة، ويشكل ورقة ضغط على السلطة الفلسطينية، من جهة أخرى، لتعزيز نشاط أجهزتها الأمنية في الكشف عن خلايا نائمة واعتقال المطلوبين وتكثيف التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال الإسرائيلي.
إلى ذلك، من الواضح أن فرض الطوق الأمني على يطا، يبشر بأن المرحلة المقبلة ستشهد تكثيفاً لنشاط جيش الاحتلال في هذه البلدة التي تصفها الصحف الإسرائيلية بأنها عاصمة مخارط تصنيع بنادق ومسدسات "كارلو غوستاف"، ومعقل لحركة "حماس". وقد يتوسع نطاق هذه العمليات والمداهمات أيضاً ليشمل مدينة الخليل ومحافظتها، التي يتراجع فيها تأثير ودور الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، وكذلك بفعل تركيبتها الاجتماعية المتماسكة، وقوة ونفاذ العائلات فيها لدرجة تخشى السلطة الفلسطينية نفسها من تحديها.