15 نوفمبر 2024
عندما "يبصق" نتنياهو في وجه أوباما
توصيف خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أمام الكونغرس، على أنه "بصق" في وجه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، ليس رأياً شخصياً، بل رأي البيت الأبيض نفسه. فحسب صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في الثالث والعشرين من يناير/ كانون الثاني الماضي، فإن مسؤولاً أميركياً رفيعاً في البيت الأبيض، طلب عدم نشر اسمه، قال للصحيفة معلّقاً على قبول نتنياهو دعوة رئيس مجلس النواب الأميركي، جون بينر، للحديث أمام الكونغرس: "لقد بصق في وجهنا على رؤوس الأشهاد، وهذا ليس تعاملاً جيداً". ومعروف أن علاقة أوباما، منذ وصل إلى سدة البيت الأبيض، مطلع عام 2009، طبعها التوتر والتنافر الشديدين مع نتنياهو. بل إن خطاب نتنياهو، الثلاثاء الماضي، أمام الكونغرس، من دون التنسيق مع البيت الأبيض، وفي تناغم واضح مع مسعى الجمهوريين الذين يسيطرون على مجلسي النواب والشيوخ، لإفشال جهود الإدارة الأميركية للتوصل إلى اتفاق مع إيران بشأن ملفها النووي، لم يكن البصقة الأولى التي يوجهها نتنياهو لأوباما.
جاء أوباما إلى الرئاسة، بوعد لتحقيق سلام فلسطيني ـ إسرائيلي، غير أن نتنياهو لم يترك وسيلة أو طريقة لإهانته وفريقه، إلا اغتنمها. فمثلاً، وخلال زيارة نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى إسرائيل في مارس/ آذار 2010، فاجأته سلطات الأخيرة بالإعلان عن عطاء لبناء ألف وستمئة وحدة سكنية في القدس الشرقية، ما اعتبرته الولايات المتحدة، حينئذٍ، إهانة لنائب الرئيس الذي كان في زيارة لدفع عجلة المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية. ولم تمض أيام حتى كان أوباما يرد الصاع صاعين لنتنياهو في البيت الأبيض، عندما تركه في أحد قاعات البيت الأبيض أكثر من ساعة، بذريعة أنه يريد أن يتعشى مع زوجته وابنتيه، وذلك بعد أن رفض نتنياهو مطالب أوباما منه تجميد أعمال الاستيطان في الضفة الغربية وشرقي القدس. والنتيجة طبعاً معروفة، لم يلتزم نتنياهو يوماً بوعد قطعه في هذا السياق.
ليس خطاب نتنياهو، الثلاثاء الماضي، في الكونغرس، الأول، فقد ألقى في مايو/ أيار عام 2011، خطاب تحدٍ سابق لأوباما، وبدعوة من القيادة الجمهورية نفسها، وطرح لاءات كثيرة في وجه الإدارة الديمقراطية، وحرّض، كما اليوم، على إيران. الفارق بين الخطابين أن أوباما التقى نتنياهو حينها، فيما رفض مقابلته، هذه المرة، كما أن أعضاء الحزب الديمقراطي، كلهم، حضروا خطاب نتنياهو عام 2011، في حين قاطع أكثر من ستين عضواً خطابه هذه المرة. وفي اليوم التالي على خطابه عام 2011، كان نتنياهو يحاضر أوباما، في مؤتمر صحافي مشترك في البيت الأبيض، عن أوهام السلام في الشرق الأوسط.
وتمضي سلسلة "البصاق" التي يوجهها نتنياهو لإدارة أوباما، غير عابئ أبداً بأي رد فعل منها، على الرغم من تلميحات كثيرة صدرت عنها بأنها سترد. فالكونغرس، واللوبي الصهيوني، والإنجيليون، دائماً على أهبة الاستعداد لحماية إسرائيل من تداعيات أي تطاول على الرئيس الأميركي، أو حتى تهديد لمصالح الولايات المتحدة.
مثلاً، حاول نتنياهو، وفي كسر للبرتوكول الديبلوماسي، أن يتدخل في الانتخابات الرئاسية، أواخر عام 2012، لصالح المرشح الجمهوري، ميت رومني، ضد أوباما. ثم لم يلبث أن أفشل مشروع وزير الخارجية، جون كيري، لتحقيق سلام في موعد أقصاه إبريل/ نيسان 2014. بل، لم يتورع المسؤولون الإسرائيليون عن أن يسيئوا لكيري مباشرة، مثل أنه يريد تحصيل جائزة نوبل للسلام على حساب إسرائيل، أو أنه يرى نفسه "المسيح المخلّص".
إذن، جاء نتنياهو إلى واشنطن، وهو يراهن على الدرع الواقي الذي يحمي إسرائيل في الولايات المتحدة من أي تداعيات تترتب على نزقها، غير أن نتنياهو قد يكون أساء التقدير هذه المرة، من دون أن يعني ذلك انقلاباً جذرياً في نمط العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية. فقد خاطب الكونغرس، وهو يواجه انتخابات إسرائيلية بعد أسبوعين، ما أثار انتقاداً كثيراً له في
الدولة العبرية من أحزاب إسرائيلية رأت في خطوته دعاية انتخابية. وضع الخطاب في سياق انتخابي إسرائيلي أضعف موقف نتنياهو في واشنطن، فقد سارع أوباما إلى القول إنه لن يلتقيه، وكذلك نائبه ووزير خارجيته، ذلك أن هذا قد يُنظر له تدخلاً في شأن انتخابي إسرائيلي داخلي. وبهذا، خسر نتنياهو ذريعة أنه يمثل إسرائيل الدولة في زيارته لواشنطن. أبعد من ذلك، نتنياهو المرشح، متهم اليوم، إسرائيلياً وأميركياً، وتحديداً من الحزب الديمقراطي، بأنه يهدد أواصر العلاقة التاريخية الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، في لعبه على التناقضات الحزبية الأميركية، فالأصل أن إسرائيل مسألة فوق الحزبية في الولايات المتحدة، لكن نتنياهو يغامر بذلك كله اليوم.
اللافت في هذا السياق أمران. الأول، تغيّب أكثر من ستين عضواً ديمقراطياً، منهم يهود، في مجلسي النواب والشيوخ عن خطاب نتنياهو، احتجاجاً على إهانته الرئيس أوباما بقبوله دعوة بينر من دون تنسيق مع البيت الأبيض. الثاني، استطلاع للرأي العام الأميركي أجري منتصف فبراير/ شباط الماضي، ويظهر أن أكثر من 63% من الأميركيين يعارضون إلقاء نتنياهو خطاباً في الكونغرس. الأسوأ أن الاستطلاع (أجرته شبكة سي. إن. إن ومركز "أو. آر. سي")، يظهر أن 66% من الرأي العام الأميركي يريد أن تكون الولايات المتحدة محايدة في "الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني"، وأن 29% من المستطلعة آراؤهم يؤيدون إسرائيل مقابل 2% لصالح الفلسطينيين.
على الرغم من كل ما سبق، لا ينبغي المبالغة في توقع رد فعل أميركي. صحيح أن ثمة تهديدات ضمنية، تصدر عن مصادر مجهولة في البيت الأبيض، بأن إدارة أوباما تعاقب إسرائيل برفع الحصانة القانونية عنها في مجلس الأمن الدولي، غير أن الواقع، إلى الآن، يقول عكس ذلك. وربما أن المفارقة هنا أنه، بينما كانت مستشارة الأمن القومي، سوزان رايس، تندد بقبول نتنياهو الدعوة الجمهورية، كان كيري يقدم مرافعة دفاعية عن إسرائيل في مجلس حقوق الإنسان في جنيف، ويتهم المجلس بالتركيز على إسرائيل "والهوس" بما وصفها "مزاعم" ارتكابها انتهاكات لحقوق الإنسان. أبعد من ذلك، على الرغم من أن البيت الأبيض قرر عدم إيفاد مسؤولين "رفيعين جداً"، مثل نائب الرئيس أو زير الخارجية، إلى مؤتمر اللوبي الصهيوني "إيباك" في واشنطن، إلا أنه أوفد رايس، والسفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، سمانثا باور، ليؤكدا مرة أخرى عمق العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
في المحصّلة، لا ينبغي المراهنة على أي شرخ في العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية في المدى القريب، ولا حتى المتوسط، من دون أن يعني ذلك التقليل من خطورة هذه التشققات التي أصابت هذه العلاقة على المدى البعيد. ويكفي أن نشير، هنا، إلى أن أوباما الغاضب جداً من نتنياهو لم يجد أكثر من أن يجادل في حكمة دعوته إلى الكونغرس، بالقول: تخيّلوا لو أن الديمقراطيين كانوا الأغلبية في الكونغرس عام 2003، ووجهوا دعوة إلى الرئيس الفرنسي، حينئذ، جاك شيراك، ليخطب في الكونغرس، معارضاً خطة الرئيس جورج بوش، حينها، لغزو العراق، كيف كان سيكون الحال؟
بكلمة، ولكي نفهم عمق المشكلة في العلاقة الأميركية ـ الإسرائيلية، يكفينا أن نرى كيف أن أوباما، وأعضاء إدارته وحزبه المستائين من نتنياهو وممّن دعاه، يجادلون في المسألة، وكأن نتنياهو مسؤول أميركي منتخب، وأن إسرائيل "بقرة مقدسة" فوق النقد! ولإدراك كثيرين في الولايات المتحدة مدى الخلل في العلاقة الأميركية ـ الإسرائيلية، كثيراً ما تسمعهم يقولون إن "الكونغرس أرض أميركية محتلة إسرائيلياً"، وهي مقولة، على الرغم من مبالغتها، تحمل بعض توصيف للواقع في ثناياها. وحتى تحرير سياسة واشنطن في الشرق الأوسط من نفوذ إسرائيل وحلفائها، فإننا سنكون على موعد آخر لـ"بصقة" أخرى، توجهها تلك الدولة، الوكيل للدولة المُوَكِّلِ التي تمدها بشريان الحياة!
جاء أوباما إلى الرئاسة، بوعد لتحقيق سلام فلسطيني ـ إسرائيلي، غير أن نتنياهو لم يترك وسيلة أو طريقة لإهانته وفريقه، إلا اغتنمها. فمثلاً، وخلال زيارة نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى إسرائيل في مارس/ آذار 2010، فاجأته سلطات الأخيرة بالإعلان عن عطاء لبناء ألف وستمئة وحدة سكنية في القدس الشرقية، ما اعتبرته الولايات المتحدة، حينئذٍ، إهانة لنائب الرئيس الذي كان في زيارة لدفع عجلة المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية. ولم تمض أيام حتى كان أوباما يرد الصاع صاعين لنتنياهو في البيت الأبيض، عندما تركه في أحد قاعات البيت الأبيض أكثر من ساعة، بذريعة أنه يريد أن يتعشى مع زوجته وابنتيه، وذلك بعد أن رفض نتنياهو مطالب أوباما منه تجميد أعمال الاستيطان في الضفة الغربية وشرقي القدس. والنتيجة طبعاً معروفة، لم يلتزم نتنياهو يوماً بوعد قطعه في هذا السياق.
ليس خطاب نتنياهو، الثلاثاء الماضي، في الكونغرس، الأول، فقد ألقى في مايو/ أيار عام 2011، خطاب تحدٍ سابق لأوباما، وبدعوة من القيادة الجمهورية نفسها، وطرح لاءات كثيرة في وجه الإدارة الديمقراطية، وحرّض، كما اليوم، على إيران. الفارق بين الخطابين أن أوباما التقى نتنياهو حينها، فيما رفض مقابلته، هذه المرة، كما أن أعضاء الحزب الديمقراطي، كلهم، حضروا خطاب نتنياهو عام 2011، في حين قاطع أكثر من ستين عضواً خطابه هذه المرة. وفي اليوم التالي على خطابه عام 2011، كان نتنياهو يحاضر أوباما، في مؤتمر صحافي مشترك في البيت الأبيض، عن أوهام السلام في الشرق الأوسط.
وتمضي سلسلة "البصاق" التي يوجهها نتنياهو لإدارة أوباما، غير عابئ أبداً بأي رد فعل منها، على الرغم من تلميحات كثيرة صدرت عنها بأنها سترد. فالكونغرس، واللوبي الصهيوني، والإنجيليون، دائماً على أهبة الاستعداد لحماية إسرائيل من تداعيات أي تطاول على الرئيس الأميركي، أو حتى تهديد لمصالح الولايات المتحدة.
مثلاً، حاول نتنياهو، وفي كسر للبرتوكول الديبلوماسي، أن يتدخل في الانتخابات الرئاسية، أواخر عام 2012، لصالح المرشح الجمهوري، ميت رومني، ضد أوباما. ثم لم يلبث أن أفشل مشروع وزير الخارجية، جون كيري، لتحقيق سلام في موعد أقصاه إبريل/ نيسان 2014. بل، لم يتورع المسؤولون الإسرائيليون عن أن يسيئوا لكيري مباشرة، مثل أنه يريد تحصيل جائزة نوبل للسلام على حساب إسرائيل، أو أنه يرى نفسه "المسيح المخلّص".
إذن، جاء نتنياهو إلى واشنطن، وهو يراهن على الدرع الواقي الذي يحمي إسرائيل في الولايات المتحدة من أي تداعيات تترتب على نزقها، غير أن نتنياهو قد يكون أساء التقدير هذه المرة، من دون أن يعني ذلك انقلاباً جذرياً في نمط العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية. فقد خاطب الكونغرس، وهو يواجه انتخابات إسرائيلية بعد أسبوعين، ما أثار انتقاداً كثيراً له في
اللافت في هذا السياق أمران. الأول، تغيّب أكثر من ستين عضواً ديمقراطياً، منهم يهود، في مجلسي النواب والشيوخ عن خطاب نتنياهو، احتجاجاً على إهانته الرئيس أوباما بقبوله دعوة بينر من دون تنسيق مع البيت الأبيض. الثاني، استطلاع للرأي العام الأميركي أجري منتصف فبراير/ شباط الماضي، ويظهر أن أكثر من 63% من الأميركيين يعارضون إلقاء نتنياهو خطاباً في الكونغرس. الأسوأ أن الاستطلاع (أجرته شبكة سي. إن. إن ومركز "أو. آر. سي")، يظهر أن 66% من الرأي العام الأميركي يريد أن تكون الولايات المتحدة محايدة في "الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني"، وأن 29% من المستطلعة آراؤهم يؤيدون إسرائيل مقابل 2% لصالح الفلسطينيين.
على الرغم من كل ما سبق، لا ينبغي المبالغة في توقع رد فعل أميركي. صحيح أن ثمة تهديدات ضمنية، تصدر عن مصادر مجهولة في البيت الأبيض، بأن إدارة أوباما تعاقب إسرائيل برفع الحصانة القانونية عنها في مجلس الأمن الدولي، غير أن الواقع، إلى الآن، يقول عكس ذلك. وربما أن المفارقة هنا أنه، بينما كانت مستشارة الأمن القومي، سوزان رايس، تندد بقبول نتنياهو الدعوة الجمهورية، كان كيري يقدم مرافعة دفاعية عن إسرائيل في مجلس حقوق الإنسان في جنيف، ويتهم المجلس بالتركيز على إسرائيل "والهوس" بما وصفها "مزاعم" ارتكابها انتهاكات لحقوق الإنسان. أبعد من ذلك، على الرغم من أن البيت الأبيض قرر عدم إيفاد مسؤولين "رفيعين جداً"، مثل نائب الرئيس أو زير الخارجية، إلى مؤتمر اللوبي الصهيوني "إيباك" في واشنطن، إلا أنه أوفد رايس، والسفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، سمانثا باور، ليؤكدا مرة أخرى عمق العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
في المحصّلة، لا ينبغي المراهنة على أي شرخ في العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية في المدى القريب، ولا حتى المتوسط، من دون أن يعني ذلك التقليل من خطورة هذه التشققات التي أصابت هذه العلاقة على المدى البعيد. ويكفي أن نشير، هنا، إلى أن أوباما الغاضب جداً من نتنياهو لم يجد أكثر من أن يجادل في حكمة دعوته إلى الكونغرس، بالقول: تخيّلوا لو أن الديمقراطيين كانوا الأغلبية في الكونغرس عام 2003، ووجهوا دعوة إلى الرئيس الفرنسي، حينئذ، جاك شيراك، ليخطب في الكونغرس، معارضاً خطة الرئيس جورج بوش، حينها، لغزو العراق، كيف كان سيكون الحال؟
بكلمة، ولكي نفهم عمق المشكلة في العلاقة الأميركية ـ الإسرائيلية، يكفينا أن نرى كيف أن أوباما، وأعضاء إدارته وحزبه المستائين من نتنياهو وممّن دعاه، يجادلون في المسألة، وكأن نتنياهو مسؤول أميركي منتخب، وأن إسرائيل "بقرة مقدسة" فوق النقد! ولإدراك كثيرين في الولايات المتحدة مدى الخلل في العلاقة الأميركية ـ الإسرائيلية، كثيراً ما تسمعهم يقولون إن "الكونغرس أرض أميركية محتلة إسرائيلياً"، وهي مقولة، على الرغم من مبالغتها، تحمل بعض توصيف للواقع في ثناياها. وحتى تحرير سياسة واشنطن في الشرق الأوسط من نفوذ إسرائيل وحلفائها، فإننا سنكون على موعد آخر لـ"بصقة" أخرى، توجهها تلك الدولة، الوكيل للدولة المُوَكِّلِ التي تمدها بشريان الحياة!