25 أكتوبر 2018
عندما يخذلنا الصوت
مطهر الخضمي (اليمن)
في الساعة الثامنة والنصف من مساء يوم الجمعة، كنت جالسا في ديوان منزلنا المتواضع، أقصد المنزل الذي نسكنه بالإيجار. وهذه الملاحظة لتفادي مشكلات المؤجر فقط. المهم وبينما كنّا جميعا منهمكين بمشاغلنا الخاصة، أخي الذي يكبرني عمرا، وأكبره شكلا، يجلس في زاوية الديوان واضعا سماعتين ضخمتين على أذنيه، تحجبان عنه كل ما يحدث من ضوضاء حوله، ويستمع للمحاضرات الجامعية المسجلة في هاتفه المحمول.
أمي بدورها التربوي الذي تمارسه بكل تفان، منذ كنا صغارا لا نجيد القراءة والكتابة، تجلس في الجهة الأخرى من الديوان، لتلقن أختي الصغيرة دروسا في والقراءة والإملاء، فمدارس كثيرة تخلّت عن مهمتها بسبب صعوبة الوضع المادي للمدرسين، بينما لم تتخلّ أمي عن مهمتها الجليلة، خصوصا أن أختي تدرس في الصف الثالث الابتدائي، ولا تجيد القراءة والكتابة بالشكل المطلوب، ما ينبئ بكارثية التعليم هذه الأيام.
كنت جالسا في الجهة الأخرى من الديوان حيث يبدو الشارع بكل أحداثه وتفاصيله خلف ظهري، والكمبيوتر المحمول أمامي أشاهد الفيلم الأميركي (A futile and stupid gesture) بكل انسجام وهدوء، أضع في أذني سماعتين صغيرتين إلا أنهما يصدران صوتا قويا، لا يستطيع أي صوت آخر من حولي اختراقها. تتابع أحداث الفيلم، تبدأ التجربة ويستمر الصراع، تنتهي بالفشل، وكوني أحد خريجي كلية الإعلام، عشت ذلك كثيرا، حتى بمجرد تجربتي في مشاهدة الفيلم والاستمتاع به أفشل أكثر من مرة، فالتركيز على الفكرة وتصاعد الأحداث، وكيفية بناء المسار الدرامي ونقاط التحول والصراع في الفيلم، وتساؤلي عن الأدوات والتقنيات المستخدمة في تصوير الفيلم.. يجعلني ذلك كله لا أستمتع كثيرا في مشاهدتي للأفلام، وهذا فشلٌ آخر يُضم إلى قائمتي.
المهم وبينما نحن منهمكون كلٌ في مجاله، حدث غير المتوقع، الآذان صاغية، نظرات التساؤل تملأ أجواء المكان، السكون لم يعد له وجود بيننا، إنها أصوات دحرجة دبة الغاز تلامس حواسنا ومشاعرنا، نزعت السماعة من أذني، تلفّتُّ يمنةً ويسرة، أخيرا سمعت هذا الصوت الذي نشتاقه أكثر من اشتياقنا لأصوات من نحب، جميعهم ينظرون إليّ ويصرخون بوجهي، إجرِ... أخرج... اذهب ربما عاقل الحارة قد أتى بالغاز كما وعدنا منذ شهرين وأكثر، هرعت إلى الخارج، فتحت الباب ويداي ترتجفان من الفرحة والخجل كأني في طريقي إلى غرفة النوم ليلة الدخلة. ولكني هذه المرة وجدت ما لا يسر خاطري ولا خاطر أحد من سكان الحارة، فكل ما في الأمر، أن أحدهم تعب من حمل عبوة الغاز الفارغة فقام بدحرجتها وسط الشارع، غير آبهٍ بمشاعر الناس وخواطرهم، فقد كان سكان الحارة واقفون في طوابير مستقيمة على أبواب منازلهم، كشرطة السير حين تنظم مرور موكب رئيس الجمهورية، ويعتريهم شغف الأطفال حين يجلسون على أبواب المنازل يوم عيد ميلاد المسيح، ينتظرون "بابا نويل" ليوزع عليهم الهدايا ومكعبات الشوكولاه.
لم أكن أدري أن صوت جرة الغاز صار أعذب من صوت فيروز وأم كلثوم وأبو بكر سالم وميادة الحناوي وآمال ماهر، فجميعهم لا يمكن أن يثيروا فينا المشاعر، ويحرّكوا فينا الحنين إلى الماضي الجميل، كما يحركه صوت عبوة الغاز حين تتدحرج في الشارع، ولكم أن تتخيلوا صوت عبوة الغاز حين تكون ممتلئة! كيف يكون صوتها أكثر عذوبة، ورخامة، وأدفأ إحساسا، بل من جماله يغطي درجات السلم الموسيقي.
أمي بدورها التربوي الذي تمارسه بكل تفان، منذ كنا صغارا لا نجيد القراءة والكتابة، تجلس في الجهة الأخرى من الديوان، لتلقن أختي الصغيرة دروسا في والقراءة والإملاء، فمدارس كثيرة تخلّت عن مهمتها بسبب صعوبة الوضع المادي للمدرسين، بينما لم تتخلّ أمي عن مهمتها الجليلة، خصوصا أن أختي تدرس في الصف الثالث الابتدائي، ولا تجيد القراءة والكتابة بالشكل المطلوب، ما ينبئ بكارثية التعليم هذه الأيام.
كنت جالسا في الجهة الأخرى من الديوان حيث يبدو الشارع بكل أحداثه وتفاصيله خلف ظهري، والكمبيوتر المحمول أمامي أشاهد الفيلم الأميركي (A futile and stupid gesture) بكل انسجام وهدوء، أضع في أذني سماعتين صغيرتين إلا أنهما يصدران صوتا قويا، لا يستطيع أي صوت آخر من حولي اختراقها. تتابع أحداث الفيلم، تبدأ التجربة ويستمر الصراع، تنتهي بالفشل، وكوني أحد خريجي كلية الإعلام، عشت ذلك كثيرا، حتى بمجرد تجربتي في مشاهدة الفيلم والاستمتاع به أفشل أكثر من مرة، فالتركيز على الفكرة وتصاعد الأحداث، وكيفية بناء المسار الدرامي ونقاط التحول والصراع في الفيلم، وتساؤلي عن الأدوات والتقنيات المستخدمة في تصوير الفيلم.. يجعلني ذلك كله لا أستمتع كثيرا في مشاهدتي للأفلام، وهذا فشلٌ آخر يُضم إلى قائمتي.
المهم وبينما نحن منهمكون كلٌ في مجاله، حدث غير المتوقع، الآذان صاغية، نظرات التساؤل تملأ أجواء المكان، السكون لم يعد له وجود بيننا، إنها أصوات دحرجة دبة الغاز تلامس حواسنا ومشاعرنا، نزعت السماعة من أذني، تلفّتُّ يمنةً ويسرة، أخيرا سمعت هذا الصوت الذي نشتاقه أكثر من اشتياقنا لأصوات من نحب، جميعهم ينظرون إليّ ويصرخون بوجهي، إجرِ... أخرج... اذهب ربما عاقل الحارة قد أتى بالغاز كما وعدنا منذ شهرين وأكثر، هرعت إلى الخارج، فتحت الباب ويداي ترتجفان من الفرحة والخجل كأني في طريقي إلى غرفة النوم ليلة الدخلة. ولكني هذه المرة وجدت ما لا يسر خاطري ولا خاطر أحد من سكان الحارة، فكل ما في الأمر، أن أحدهم تعب من حمل عبوة الغاز الفارغة فقام بدحرجتها وسط الشارع، غير آبهٍ بمشاعر الناس وخواطرهم، فقد كان سكان الحارة واقفون في طوابير مستقيمة على أبواب منازلهم، كشرطة السير حين تنظم مرور موكب رئيس الجمهورية، ويعتريهم شغف الأطفال حين يجلسون على أبواب المنازل يوم عيد ميلاد المسيح، ينتظرون "بابا نويل" ليوزع عليهم الهدايا ومكعبات الشوكولاه.
لم أكن أدري أن صوت جرة الغاز صار أعذب من صوت فيروز وأم كلثوم وأبو بكر سالم وميادة الحناوي وآمال ماهر، فجميعهم لا يمكن أن يثيروا فينا المشاعر، ويحرّكوا فينا الحنين إلى الماضي الجميل، كما يحركه صوت عبوة الغاز حين تتدحرج في الشارع، ولكم أن تتخيلوا صوت عبوة الغاز حين تكون ممتلئة! كيف يكون صوتها أكثر عذوبة، ورخامة، وأدفأ إحساسا، بل من جماله يغطي درجات السلم الموسيقي.
مقالات أخرى
02 سبتمبر 2018
27 مايو 2018
15 مارس 2018