عندما يصبح الذيل أخطر من الرأس
قديمًا؛ كانت فلسفة الجغرافيا الصهيونية تقول إن حدود إسرائيل تكون حيثما تصل دباباتها. أما حديثًا فيمكن التأكيد أن حدود إسرائيل تكون حيثما يصل محمد بن زايد. مع التذكير بأن ذلك لا يعني أن ابن زايد يمثل رأس الأفعى، فهو دور أكبر منه كثيرًا في ما يتعلق بإسرائيل، حصرًا، بل يمكن أن يلعب دور الذيل، إن لم يكن أقل.
لا ضير من الاعتراف بأن العقيدة العسكرية الإسرائيلية تبدّلت، كثيرًا، لا بتبدّل داخليّ يتعلق باستراتيجياتها الأمنية الخاصة بها، بل بتبدّل محيطها العربيّ الذي كفاها عناء التخطيط والترسيم والتعزيز، بفضل ثلةٍ من مغامري الصحراء الذين لا يفرّقون بين نزهات صيد الحباري المؤقتة وهجرات معاهدات سلام مصيرية تضع الأمة بأكملها في مأزق حضاري وتاريخي أمام أجيالها اللاحقة.
عمومًا، ما يزال لغز تهافت محمد بن زايد على التطبيع مع إسرائيل محيرًا، على الرغم من أن دائرة التوقعات بشأنه تحتمل مثل هذه المصائب والويلات التي يباغتنا بها يوميًّا، منذ اغتصب زمام الحكم واستفرد به قبل سنوات، على الضدّ من كل الآمال التي كانت تراهن على جيل حكام عربي جديد، بدأ يعتلي سدد المسؤولية في غير دولة عربية واحدة، على غرار محمد بن سلمان، وبشار الأسد، وغيرهما. كنا نرجّح أن يكون هذا الجيل أغزر إحساسًا بهموم الإنسان العربي وتوقه إلى الحرية واستعادة كرامته التي أجهزت عليها عقود الاستبداد المظلمة، بفضل توحّش آبائهم على سدد الحكم، غير أن التاريخ عاد فأكّد أن "الابن سرّ أبيه"، خصوصًا إذا تعلق الأمر بشهوة السلطة، بل إن جيل الأبناء ذهب أبعد كثيرًا من آبائه، إلى الحد الذي بلغت فيه هذه الشعوب حدّ التحسّر على أزمنة الآباء، "الأقلّ استبدادًا"، وفق ما قالته حسرتهم.
قلنا إن لغز الاندلاق الإماراتي على التطبيع محيّر، قياسًا على تجارب تطبيعيّة أخرى بين مصر وإسرائيل، والأردن وإسرائيل، ففي التجربتين السابقتين، لم يأت التطبيع وليد "اندلاق" أو تهافت صبيانيّ على نحو ما فعله ابن زايد، بل سبقته حروبٌ وأثمانٌ وتكاليف لا يمكن نكرانها، دفعها البلدان الحدوديان من دم أبنائهما، ومن احتلال قسم من أراضيهما، ومن حرياتٍ غيبت بذريعة التحشيد للمجهود الحربي، على الرغم من أن الشعبين، المصري والأردني، كانا يؤثران تحمّل المزيد أيضًا، على التطبيع، وعلى معاهدات السلام المذلّة مع الغاصب الصهيوني، ولا غرابة إن بقيت تلك المعاهدات حبرًا على "أرق"، على الرغم من مضي عقود على توقيعها، ما يعني أن هذين الشعبين ما يزالان يرفضان التطبيع مع إسرائيل، بكل صنوفه.
لئن كانت المعاهدتان المصرية والأردنية مفهومتيْن، ولكن غير مقبولتين، فإن معاهدة السلام الإماراتية مع إسرائيل لا تملك أي مبرّر؛ فلا الإمارات دفعت ثمنًا عسكريًّا سابقًا، ولا خسرت جزءًا من أراضيها مع إسرائيل، كما فعلت بها إيران، ولا هي تملك خط حدود مشتعلًا مع إسرائيل يبقيها على أهبة القلق الدائم.
على هذا النحو، يفكّر اليوم معظم المصدومين بخبر هذه المعاهدة، غير أن المطّلعين على سيكولوجية محمد بن زايد المشوّهة، في عدائه المستفحل لأي حلم عربي بالكرامة والتحرّر، ربما يدرك سبب اندلاقه على التوقيع؛ لأن ما يفعله باختصار، هو إعادة رسم الحدود الإسرائيلية الجديدة بلسانه.
أحيانًا يكون الذيْل أخطر من الرأس، خصوصًا إذا كان على غرار محمد بن زايد الذي يحمل الآن حلم إسرائيل بالتمدّد ويذهب به بعيدًا، إلى أي بقعة عربية يصل إليها دهاؤه ومكره، إلى اليمن، وليبيا، ومصر، وسورية، وتونس، وإلى حيث يبزغ أي حلم عربي جديد؛ ليقاوم الحلم العربي بالحلم الصهيوني. ويتعيّن على تلك الدول أن تحذر ما هو قادم، قبل أن تكتشف أن خط الحدود الإسرائيلية أصبح متاخمًا لها؛ ذلك أن التطبيع الحقيقي مع إسرائيل ليس محض علاقات وبروتوكولات، بل يعني امتداد إسرائيل جغرافيًّا وعسكريًّا ليشمل كل دولةٍ عربيةٍ توقع معها معاهدة سلام، وليغدو خط الحدود الخلفي للدولة المُعاهدة والمطبّعة خط حدود إسرائيليًّا جديدًا، رسمته الأذناب وليس الدبابات، هذه المرّة.