عن "جوكر" قبل أن تحلّ العتمة

14 أكتوبر 2019
+ الخط -
لاقى فيلم "جوكر" المعروض حاليا إقبالا كبيرا، وأثار ردود فعلٍ تراوحت بين الانبهار والرفض. ولعل اختلاف مستويات فهم الشخصية الرئيسية والإشكالية فيه، الجوكر، أهم مبرّرات التناقض الحاد في تلقي الفيلم الذي اعتبره كثيرون تحفةً فنيةً وعملا ملحميا عظيما، فيما وجد بعض من عشاق هذه الشخصية أنه لم يلب توقعاتهم، كما جرى في أفلام سابقة، أدّى الدور الأصعب والأكثر جاذبية فيها الساحر جاك نيكلسون، ومن بعده العبقري، هيث ليدجر، الذي حاز جائزة أوسكار أفضل ممثل مساعد، حيث أبدع في تجسيد شخصية الجوكر، أمير الجريمة وعاشق الفوضى، الذكي، غريب الأطوار، وهي الأكثر شعبية بين الشخصيات الشريرة التي تصارع الأبطال الخارقين، مثل سوبر مان، وبات مان، في قصص الكتب المصوّرة الشهيرة، وهي المملوكة لشركة دي سي كومك، المختصة بالثقافة الشعبية الأميركية ذات الصبغة التجارية، حيث تنتهي دائما بانتصار الخير، وتفوق البطل السوبر. المفارقة أن جيري روبنسون الذي ابتدع هذه الشخصية عدواً تقليدياً للرجل الوطواط في عام 1940 كان ينوي القضاء عليه في النسخة الثانية. ولكن قدّر لها أن تستمر، وتصنف، حسب نقاد، أهم شخصية شريرة في تاريخ السينما، مثلت الغضب والشر المطلق البارد غير المبرّر.
من هنا، بدأت مغامرة المخرج وكاتب النص، تود فيلبس، المعروف بأفلامه الكوميدية الخفيفة، وهذه مفارقة ثانية! عاد بنا في الحكاية إلى أولها، قبل أن تحل العتمة في روح الجوكر، وقدّم شخصية آرثر فيلك السيكوباثية، البهلوان المعدم، الهشّ، المرهف، الحالم بأن يصبح نجم كوميديا شهيرا، المهمّش، المضطرب نفسيا، المختل عقليا، ضعيف الشخصية الذي يتعرّض للتنمّر والقمع، مستسلما لأعراض مرضٍ غريبٍ يجعله يقع صريع نوبات ضحكٍ هستيرية قهرية، ضحكاتٍ موجعة بليغة، تجهش بها روح دامية جريحة. يرقص أحيانا في الشوارع مثل طائر ذبيح من فرط الألم، ويعاني من شيزوفرينيا خطيرة، تُقصيه عن الواقع البائس، وتبيح له التحقق من خلال التحليق حرّا في عالم الوهم وأحلام اليقظة، في فضاء مدينة غوثام الافتراضية التي ترمز إلى نيويورك في الثمانينيات.
تجري الأحداث في المدينة الرمادية، الكالحة القذرة التي أعلن عمال النظافة فيها إضرابا مفتوحا، ما تسبب في تكدس القمامة وتكاثر الجرذان. نرصد التحولات الجذرية الكبرى التي طرأت على شخصية آرثر، في تصاعد درامي يخطف الأنفاس، وهو الذي يحسّ بالعجز وقلة الحيلة، المهرّج الطيب المتوحد، المسحوق المتوتر، فاقد الإحساس بالأمان، المحتاج إلى الحب، المخذول من الجميع، وصولا إلى الانبثاق الباهر للجوكر، المتوحش، الدموي، السادي، الساخر، القوي، القادر على الانتقام، وقد تحوّل، من دون قصد منه، إلى مخلّص، ورمز للنضال ومقاومة الفساد السياسي.
سيتذكّر جمهور السينما طويلا أداء واكين فينكس، الممثل المذهل الذي فقد من وزنه خمسة وعشرين كيلوغراما ليتمكّن من الدور، فيستحق الأوسكار كما أرى، تحديدا لأدائه الضحكة الرهيبة والرقص الغريب مفتاحا للشخصية، وكذلك التحكّم بلغة الجسد الذي بات طيّعا منسجما مع ملامح الشخصية المعذّبة. أخذ واكين الشخصية إلى مناطق مظلمة مركبة، مرعبة وعرة، استدعت تضامنا غير مفهوم مع الضحية الضعيفة التي تحوّلت إلى نموذج مخيف وخطر، وقد تخلى عن آدميته، حين قتل أمه، لأنها خذلته طفلا، وهو الذي يحبها. يحاول، في مشهدٍ خارق، أن يشرح للمحللة النفسية غير المكترثة بأن "الأمور تزداد جنونا في الخارج"، وكتب على قصاصة ورق إنه "يتمنّى أن يكون موته أكثر منطقية من حياته". ويقول للكوميديان الشهير، في أثناء اعترافه بجرائم القتل، "خلال كل حياتي، لم أكن متأكدا من وجودي. ولكنني أصبحت موجودا الآن، والجميع بدأ يلاحظ ذلك". قال ذلك لمثله الأعلى الذي عرّضه للسخرية على الملأ، فأقدم على قتله على الهواء مباشرة، في لقاء تلفزيوني (أدّى الدور القصير روبرت دي نيرو).
تفاصيل مدهشة يشتمل عليها الفيلم المبهر، وأداء أسطوري قدّمه واكين، في لقطاتٍ عديدة، لعل أجملها، عندما أعاد رسم الابتسامة الجوكرية بالدم النازف، فأضفى على صورة المهرّج مهابةً وقوة تأثير وسطوة غامضة، وسط هتاف جماهير من أتباع الجنون. ثمّة كثير مما يمكن قوله في الفيلم المفتوح على تأويلاتٍ شتى. وعلى الرغم من نفي المخرج الإسقاطات السياسية، وإصراره على أنه سعى إلى لعبةٍ نفسيةٍ، كشف فيها غطرسة جنون العظمة، يظل فيلم "جوكر" صرخة احتجاج حانقة، أطلقها مجنون في مدينة مجنونة، مواجها بها منظومة الظلم والطغيان.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.