13 فبراير 2022
عن "نوستالجيا" ثورة 25 يناير
لا يزال هاشتاغ "أنا_شاركت_في_ثورة_ يناير" الذي أطلقه نشطاء مصريون يتفاعل على صفحات التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر). وهو الهاشتاغ الذي يمثل، ولو جزئياً، أحد الردود الواضحة على حملة تجريم الثورة التي تروجها المؤسسات والأذرع الإعلامية التابعة للنظام الحالي في مصر. ولكن، ما يلفت النظر في مسألة استحضار الذكرى الخامسة للثورة هو حالة "النوستالجيا" التي تهيمن على تعليقات الذين شاركوا في الثورة وتغريداتهم. وهي حالة مفهومة، في ظل سياسة القمع الشديد التي يمارسها النظام العسكري الآن ضد كل من ينتمي للثورة أو شارك فيها. وهي أيضاً حالة متوقعة وطبيعية، وليست خاصة بالثورة المصرية، وإنما وُجدت، قبل ذلك في أعقاب الثورات التي شهدت انحساراتٍ وانكساراتٍ كما كانت الحال مع الثورة الفرنسية التي شهدت انتكاساتٍ عديدةٍ قبل أن تستقر الأمور، وتتخلص فرنسا من الحكم الديكتاتوري بعد سنوات من الفوضى والصراع الداخلي. كما تعكس أيضاً شعوراً بالحنين إلى ماضٍ قريب، تحول في نفوس بعضهم وعقولهم إلى ذكرى جميلة تزداد جاذبية وحضوراً كلما تعثر الواقع وازداد كآبة.
بيد أن حالة النوستالجيا والحنين للثورة هذه، لا تخلو من شعورٍ كامن بالهزيمة، على الأقل لدى بعضهم، وتعكس إحساساً بعدم القدرة على الفعل أو مواجهة الواقع. وهو شعور قد يبدو طبيعياً، ليس فقط نتيجة حالة التوحش التي يبدو عليها النظام الحالي ومؤسساته القمعية، والذي يقوم بضربات استباقية لأي محاولةٍ قد يُشتم منها رائحة الثورة أو الاحتجاج، إنما أيضاً لحالة التشرذم والتفتت التي تبدو عليها القوى الرافضة للعسكر وللاستبداد. بيد أن ما هو غير طبيعي أن يتحول هذا الشعور، بمرور الوقت، إلى طاقةٍ سلبيةٍ ليس فقط تدفع بالاستسلام وعدم التفكير في كيفية مواجهة هذا الوضع، وإنما تقاوم، أو تسّخف بأية محاولة للتفكير خارج الصندوق والعمل على مواجهة هذا الوضع، أو أن يصبح مجرد التفكير في مسألة التغيير كما لو كان ضرباً من الخيال.
مصر ليست الدولة الأولى، ولن تكون الأخيرة التي تتعرقل فيها الثورة، وتتعطل عجلتها عن الدوران ولو فترة. بل الأصل في الثورات الحقيقية، وليست الانتفاضات العابرة، هو هذا التعطل وعدم الإنجاز في السنوات الأولى، بحيث إذا حدث التغيير لاحقاً كان جذرياً وراديكالياً وحقيقياً. ولننظر إلى التاريخ، كي نأخذ العبرة. خذ مثلاً دولة كالأرجنتين، وهي بلد قديم وكبير ولها تاريخ عريق من الكفاح السياسي ضد الحكم العسكري والديكتاتوري الذي بدأ منذ اواخر القرن التاسع عشر وحتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي. أي ما يقرب من حوالي مائة عام من الكفاح الذي كان أحياناً في الانتفاضات والمظاهرات والاعتصامات والعصيان المدني، وأحيانا أخرى، من خلال الكفاح المسلح. فقد شهدت البلاد حوالي ستة انقلابات عسكرية من 1930 وحتى 1976، بدأها الجنرال خوزيه أوربور الذي حاول بناء ديكتاتورية عسكرية على الطراز الفاشستي الإيطالي، لكنه فشل واضطر إلى السماح باتباع سياسات ديمقراطية، وإن كانت شكلية. ولكن، ما لبث أن تمت إطاحته خلال عامين فقط، وأُجبر على تسليم السلطة إلى جنرال أخر، هو أوجستين جوستو الذي بدا حريصاً على بناء نظام ديمقراطي حقيقي، لكنه فشل بسبب ضعفه وعدم مساندة الطبقة العاملة له. ثم جاء الانقلاب الثاني عام 1943، والذي قادته خلية عسكرية سرية، كان ضباطها متعاطفين مع الإيديولوجية الفاشستية أيضا، وكانوا لا يرغبون في أن تنخرط الأرجنتين في الحرب العالمية الثانية. وكان الكولونيل خوان بيرون مهندس الانقلاب على الرئيس رومان كاستليو الذي حكم البلاد أقل من عام، وجاء إلى السلطة في انتخابات مزورة. كان انقلاب بيرون مدعوماً شعبياً نتيجة عدم رغبة أرجنتينيين كثيرين في المشاركة في الحرب، ورفض الضغوط الأميركية للقيام بذلك. في البداية، لم يستلم بيرون السلطة، وإنما تركها لأحد أهم شركائه، وهو الجنرال "أدلاميرو فاريل" الذي تولى الرئاسة بين عامي 1944-1946 والذي اعتقل حليفه السابق بيرون، قبل أن يتم تحريره في مظاهراتٍ حاشدةٍ، قام بها العمال المتعاطفون مع بيرون، وتم إطلاق سراحه خلال شهور قليلة، وترشح للرئاسة التي فاز بها بنسبة 54% في فبراير/شباط 1946. وقد قام بيرون بإصلاحات سياسية عديدة، داعمة للديمقراطية وللعدالة الاجتماعية، ما ساعد على نمو الطبقات الحضرية وزيادة قوة العمال. ولكن، بعد عدة سنوات، انطلقت مظاهرات عديدة ضد بيرون، ما دفع الجيش، بدعم من الكنيسة الكاثوليكية، إلى التدخل مرة أخرى وإطاحته في سبتمبر/أيلول 1955، وتم تعيين مجلس عسكري لحكم البلاد بقيادة الجنرال إدواردو لوناردي. ومن 1955 وحتى 1976 شهدت الأرجنتين حكومات سلطوية عديدة متعاقبة، وانقلابين عامي 1962 و 1966. ولم تهنأ الأرجنتين بأي قدر من الاستقرار في تلك الفترة. وفي مارس/آذار عام 1976، أطاح الجيش حكم الرئيسة إيزابيل مارتيز الذي استمر منذ عام 1974. ودخلت الأرجنتين من 1976 إلى 1983 ما يطلق عليه "عصر الإرهاب" الذي مارسته السلطة العسكرية ضد المخالفين والمعارضين السياسيين. حيث ارتكب النظام العسكري كوارث عديدة، سواء على صعيد الاختفاء القسري، والذي تراوح عدد ضحاياه ما بين 10و30 ألف شخص، أو من خلال القتل المباشر للمعارضين، وبلغت انتهاكات حقوق الإنسان مستويات مرعبة في تلك الفترة. ونتيجة للفشل الاقتصادي للعسكر في الأرجنتين، فضلاً عن أزمة حرب الفوكلاند مع إنجلترا، اضطر النظام العسكري إلى ترك السلطة، ولكن بعد أن أضعف الحركات الاحتجاجية، وقلّص الطبقة الوسطى. وبعد سقوط الحكم العسكري، أجرت الأرجنتين انتخابات ديمقراطية، أنهت عقوداً من الحكم السلطوي، ومهدت الطريق إلى بناء ديمقراطية حديثة، وإن شهدت بعض التوترات وعدم الاستقرار، نتيجة سوء الأوضاع الاقتصادية حتى أواخر التسعينيات.
خلاصة القول، معركة التغيير الحقيقي في مصر لا تزال طويلة، لكنها لن تتوقف أو تنتهي حتى تحقق مطالبها المشروعة. وفي سبيل ذلك، على الجميع أن يتحلى بالصبر، وأن يعيد النظر في استراتيجيات مقاومة القمع والظلم، والذي لن يستمر، وإن شك بعضهم في ذلك.
بيد أن حالة النوستالجيا والحنين للثورة هذه، لا تخلو من شعورٍ كامن بالهزيمة، على الأقل لدى بعضهم، وتعكس إحساساً بعدم القدرة على الفعل أو مواجهة الواقع. وهو شعور قد يبدو طبيعياً، ليس فقط نتيجة حالة التوحش التي يبدو عليها النظام الحالي ومؤسساته القمعية، والذي يقوم بضربات استباقية لأي محاولةٍ قد يُشتم منها رائحة الثورة أو الاحتجاج، إنما أيضاً لحالة التشرذم والتفتت التي تبدو عليها القوى الرافضة للعسكر وللاستبداد. بيد أن ما هو غير طبيعي أن يتحول هذا الشعور، بمرور الوقت، إلى طاقةٍ سلبيةٍ ليس فقط تدفع بالاستسلام وعدم التفكير في كيفية مواجهة هذا الوضع، وإنما تقاوم، أو تسّخف بأية محاولة للتفكير خارج الصندوق والعمل على مواجهة هذا الوضع، أو أن يصبح مجرد التفكير في مسألة التغيير كما لو كان ضرباً من الخيال.
مصر ليست الدولة الأولى، ولن تكون الأخيرة التي تتعرقل فيها الثورة، وتتعطل عجلتها عن الدوران ولو فترة. بل الأصل في الثورات الحقيقية، وليست الانتفاضات العابرة، هو هذا التعطل وعدم الإنجاز في السنوات الأولى، بحيث إذا حدث التغيير لاحقاً كان جذرياً وراديكالياً وحقيقياً. ولننظر إلى التاريخ، كي نأخذ العبرة. خذ مثلاً دولة كالأرجنتين، وهي بلد قديم وكبير ولها تاريخ عريق من الكفاح السياسي ضد الحكم العسكري والديكتاتوري الذي بدأ منذ اواخر القرن التاسع عشر وحتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي. أي ما يقرب من حوالي مائة عام من الكفاح الذي كان أحياناً في الانتفاضات والمظاهرات والاعتصامات والعصيان المدني، وأحيانا أخرى، من خلال الكفاح المسلح. فقد شهدت البلاد حوالي ستة انقلابات عسكرية من 1930 وحتى 1976، بدأها الجنرال خوزيه أوربور الذي حاول بناء ديكتاتورية عسكرية على الطراز الفاشستي الإيطالي، لكنه فشل واضطر إلى السماح باتباع سياسات ديمقراطية، وإن كانت شكلية. ولكن، ما لبث أن تمت إطاحته خلال عامين فقط، وأُجبر على تسليم السلطة إلى جنرال أخر، هو أوجستين جوستو الذي بدا حريصاً على بناء نظام ديمقراطي حقيقي، لكنه فشل بسبب ضعفه وعدم مساندة الطبقة العاملة له. ثم جاء الانقلاب الثاني عام 1943، والذي قادته خلية عسكرية سرية، كان ضباطها متعاطفين مع الإيديولوجية الفاشستية أيضا، وكانوا لا يرغبون في أن تنخرط الأرجنتين في الحرب العالمية الثانية. وكان الكولونيل خوان بيرون مهندس الانقلاب على الرئيس رومان كاستليو الذي حكم البلاد أقل من عام، وجاء إلى السلطة في انتخابات مزورة. كان انقلاب بيرون مدعوماً شعبياً نتيجة عدم رغبة أرجنتينيين كثيرين في المشاركة في الحرب، ورفض الضغوط الأميركية للقيام بذلك. في البداية، لم يستلم بيرون السلطة، وإنما تركها لأحد أهم شركائه، وهو الجنرال "أدلاميرو فاريل" الذي تولى الرئاسة بين عامي 1944-1946 والذي اعتقل حليفه السابق بيرون، قبل أن يتم تحريره في مظاهراتٍ حاشدةٍ، قام بها العمال المتعاطفون مع بيرون، وتم إطلاق سراحه خلال شهور قليلة، وترشح للرئاسة التي فاز بها بنسبة 54% في فبراير/شباط 1946. وقد قام بيرون بإصلاحات سياسية عديدة، داعمة للديمقراطية وللعدالة الاجتماعية، ما ساعد على نمو الطبقات الحضرية وزيادة قوة العمال. ولكن، بعد عدة سنوات، انطلقت مظاهرات عديدة ضد بيرون، ما دفع الجيش، بدعم من الكنيسة الكاثوليكية، إلى التدخل مرة أخرى وإطاحته في سبتمبر/أيلول 1955، وتم تعيين مجلس عسكري لحكم البلاد بقيادة الجنرال إدواردو لوناردي. ومن 1955 وحتى 1976 شهدت الأرجنتين حكومات سلطوية عديدة متعاقبة، وانقلابين عامي 1962 و 1966. ولم تهنأ الأرجنتين بأي قدر من الاستقرار في تلك الفترة. وفي مارس/آذار عام 1976، أطاح الجيش حكم الرئيسة إيزابيل مارتيز الذي استمر منذ عام 1974. ودخلت الأرجنتين من 1976 إلى 1983 ما يطلق عليه "عصر الإرهاب" الذي مارسته السلطة العسكرية ضد المخالفين والمعارضين السياسيين. حيث ارتكب النظام العسكري كوارث عديدة، سواء على صعيد الاختفاء القسري، والذي تراوح عدد ضحاياه ما بين 10و30 ألف شخص، أو من خلال القتل المباشر للمعارضين، وبلغت انتهاكات حقوق الإنسان مستويات مرعبة في تلك الفترة. ونتيجة للفشل الاقتصادي للعسكر في الأرجنتين، فضلاً عن أزمة حرب الفوكلاند مع إنجلترا، اضطر النظام العسكري إلى ترك السلطة، ولكن بعد أن أضعف الحركات الاحتجاجية، وقلّص الطبقة الوسطى. وبعد سقوط الحكم العسكري، أجرت الأرجنتين انتخابات ديمقراطية، أنهت عقوداً من الحكم السلطوي، ومهدت الطريق إلى بناء ديمقراطية حديثة، وإن شهدت بعض التوترات وعدم الاستقرار، نتيجة سوء الأوضاع الاقتصادية حتى أواخر التسعينيات.
خلاصة القول، معركة التغيير الحقيقي في مصر لا تزال طويلة، لكنها لن تتوقف أو تنتهي حتى تحقق مطالبها المشروعة. وفي سبيل ذلك، على الجميع أن يتحلى بالصبر، وأن يعيد النظر في استراتيجيات مقاومة القمع والظلم، والذي لن يستمر، وإن شك بعضهم في ذلك.