عن أسطورة "الدولة الإسلاميّة"

30 يناير 2015

سورية .. دولة البعث ودولة داعش

+ الخط -
تمثّل مسألة "الدولة الإسلامية" أهم الإشكالات المهمة التي تواجه حركات الإسلام السياسي في العالم العربي. وهي الإشكالية التي احتلت حيّزاً مهمّاً في أجندة ومشروع معظم هذه الحركات، لكنها لم تحتل القدر نفسه من الأهمية في المشاريع الفكرية والفلسفية التي طرحتها هذه الحركات. وباستنثاء بعض البيانات والشعارات، لم تحظ مسألة "الدولة"، كمفهوم مجرد، بأي نقاش حقيقي وجاد داخل دوائر الإسلاميين، خصوصاً على مستوى القواعد.
وفي محاولة حفرية أو جيولوجية في التاريخ الإسلامي، نكتشف أن مصطلح "الدولة الإسلامية" لم يظهر، من الناحية اللغوية، حتى القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي)، وجاءت أول إشارة واضحة وصريحة له في مقدمة ابن خلدون. وإن كان باحثون يعتقدون بأن ابن تيمية كان أول من استخدم "لفظ" الدولة الإسلامية، وإن لم يعرّفها بشكل واضح. في حين استخدم فقهاء، كالسرخسي والطرطوسي والماوردي وابن حزم وابن الأثير والمسعودي واليعقوبي، مصطلحات مثل "المُلْك" و"السلطنة" و"الإمارة" بديلاً عن مفهوم الدولة. ولعلّ الاستخدام الأشيع والأكثر تداولاً كان "دار الإسلام"، وذلك لتمييزها عن "دار الحرب". وبعد ابن خلدون، جرى استخدام مفهوم "الدولة الإسلامية" بكثافة في الكتابة والتنظير لمفهوم السياسة. بيد أن النقلة النوعية (أو الحركية إن شئت) في استخدام مفهوم الدولة الإسلامية وانتشاره جاءت على أيدي المفكر الهندي، أبو الأعلي المودودي، الذي أعطى للمفهوم دلالات ثيولوجية (عقائدية) وسياسية، من خلال مفهوم عنه "الحاكمية" الذي تبناه في ما بعد سيد قطب، وتلقفته، بعد ذلك، الحركات الإسلامية السلمية والراديكالية، وحاولت إنزال المفهوم على أرض الواقع، ولو بالعنف والقوة، وذلك إلى أن وصلنا إلى مرحلة "داعش" التي أعلنت قيام "دولتها" الإسلامية قبل شهور.
وإذا كان الفقهاء والعلماء قد اتفقوا علي وجوب الإمامة باعتبارها أمراً مهمّاً لحراسة الدين وسياسة الدنيا، كما يقول الماوردي، أو لأجل "حمل الكافة على مقتضي النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية"، كما يعرّفها ابن خلدون، إلا أنهم لم يتفقوا على شكل محدد لإقامة هذه الإمامة، وهل من خلال الخلافة أو الدولة أو السلطنة أو الإمارة؟ أي أن الأمر كان دائماً متروكاً للاجتهاد وحسب الظروف. فالعبرة كانت دائماً بتحقيق الهدف، وليس بالشكل. لذا، ليس غريباً أن تمر مؤسسة الخلافة بأطوار مختلفة من الصعود والهبوط، والقوة والضعف، والازدهار والانحدار، وأن يسري عليها قانون الزمن الأزلي من صعود وأفول. كما أن الفقه السياسي الإسلامي لم يُعطَ قدراً كبيراً من الاهتمام والنقاش حول مفهوم الدولة وطبيعتها، وهو ما انعكس بالتبعية على طريقة تفكير الإسلاميين، وفهمهم مسألة "الدولة الإسلامية".
وتكشف قراءة سريعة في كتابات منظّري الإسلاميين حول مفهوم "الدولة الإسلامية" قدراً كبيراً من الاختزال والتبسيط، يصل أحياناً إلى حد التناقض. فقبول الإسلاميين، ابتداءً، بمفهوم الدولة الحديثة والانخراط في مؤسساتها هو إقرار بعدم وجود ما يسمى "الدولة الإسلامية". كما أن خلق بعضهم صورة طوباوية عن طبيعة هذه "الدولة"، لا توجد إلا في خيالهم، يعكس مدى الفقر والإفلاس الفكري والمعرفي وغلبة السياسي على حساب القيمي لديهم. ويغيب عن ذهن هؤلاء أن إقامة مثل هذه الدولة يتطلب الإجابة على أسئلة كثيرة، تتعلق بسيادتها، ووظائفها، وخصائصها، وكيفية تعاطيها مع مواطنيها. في الوقت نفسه، تم استخدام مفهوم "الدولة الإسلامية" أداة تعبوية في حشد الجماهير ومطالبتهم بالعمل على تحقيقها، من خلال تأييد ودعم الحركات التي ترفع شعار "الدولة الإسلامية".
ولسوء الحظ، ساهمت تجارب الأنظمة والحكومات التي رفعت شعار "الدولة الإسلامية"، في العقود الماضية، في نفور كثيرين من هذا المفهوم الذي اعتبر مرادفاً للتخلّف والقمع والإكراه والاستبداد.

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".