عن استراتيجيات السلطويات العربية

26 فبراير 2018
+ الخط -
لم تستسلم الأنظمة السلطوية في العالم العربي لموجة الانتفاضات والثورات التي هزّتها قبل سبعة أعوام. وقاومت، ولا تزال، محاولات التغيير التي أطاحت بعض رؤوسها، خصوصا في مصر وليبيا وتونس واليمن. وعلى مدار السنوات السبع الماضية، طبّقت هذه الأنظمة عدة استراتيجيات، ليس من أجل البقاء في السلطة فقط، وإنما لمنع حدوث أية انتفاضات أو ثورات جديدة. ولعل أُولاها هي الانتقال من الدفاع إلى الهجوم، فبعد أن ظلت هذه الأنظمة في حالة دفاع وتراجع خلال العامين الأولين للثورات، انتقلت بعدها إلى موقع الهجوم من خلال دعم وتمويل الثورات المضادة والانقلابات وإعادة الأنظمة القديمة، ليس بشخوصها، وإنما بمنطقها وسياساتها، إلى السلطة.
ثانياً، الاستثمار الكثيف في علاقات القوة القديمة من خلال دعم مؤسسات السلطة الحاكمة، كالبيروقراطية والمؤسسة العسكرية والقوى الأمنية في البلدان التي شهدت انتفاضات وثورات. فقد استغلت هذه السلطويات علاقاتها القديمة بشخصيات ورموز سياسية مؤثرة في بلدانها، من أجل ضمان ولائها، بعد سقوط أنظمتها وإعادة تأهيلها، وتقديمها للجمهور باعتبارها أفضل مما حدث بعد الثورات والانتفاضات.

ثالثاً، تغذية الانقسامات والصراعات المحلية، خصوصا على المستويين، الإيديولوجي والطائفي. ومن يراقب خريطة نشاط السلطويات العربية في المنطقة يكتشف دعمها القوى المتطرفة إيديولوجيا، كما الحال مع التيارات العلمانية المتشدّدة في مصر وتونس، أو مع القوى الإسلامية الراديكالية، كما الحال في سورية واليمن وليبيا. ولا تجد هذه السلطويات غضاضةً في أن تتحول البلدان العربية إلى جماعات ممزقة، يقتل بعضها بعضاً من أجل ضمان عدم وجود ديمقراطية حقيقية في بلدانهم. ويدرك هؤلاء أن الديمقراطية خطر داهم عليهم، وعلى عروشهم. لذا فهم يلعبون بالانقسامات باعتبارها الورقة الرابحة في إطالة أمد الصراعات المحلية، وعدم الوصول إلى توافقات وطنية، قد تنهي هذه الصراعات. وقد رأينا ذلك بوضوح في حالتي ليبيا واليمن. فكلما اقترب الفرقاء المحليون من حل أزمتهم، تدخلت السلطويات العربية من أجل تسخين الأجواء، وضخ مزيد من الزيت على النار.
رابعاً، الاستثمار في مجالات الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، من أجل التخويف من الثورات والانتفاضات، والتشكيك في قوى التغيير السلمي وحركاته. وقد أصبح مجال الإعلام ملعباً مفتوحاً للأصولية السلطوية، كي تمرر فيه رسائلها بالتخويف من الديمقراطية والتغيير، والدفاع عن الأوضاع القائمة باعتبارها الأفضل للمجتمعات العربية. وأصبحت لدينا الآن منصات إعلامية على مختلف المستويات، لا غرض لها سوى تشويه الثورات والانتفاضات، والتقليل من شعارات الحرية والكرامة والعدالة.
خامساً، دعم السلطويات الناشئة مادياً واقتصادياً ودبلوماسياً، كما الحال في مصر وليبيا واليمن. حيث تنفق الأصوليات السلطوية بلايين الدولارات، من أجل تثبيت النظام السلطوي في مصر وإحكام قبضتها عليه، وتسخيره لخدمة مصالحها وأجندتها الإقليمية. كذلك الحال في ليبيا، حيث يعتمد الجنرال خليفة حفتر على الدعمين، المالي والدبلوماسي، من هذه الأصولية السلطوية، فضلاً عن تسويقه باعتباره المنقذ لليبيا من الفوضى. ولا تخفي هذه السلطويات انحيازاتها تجاه المستبدين الجدد الذين يمارسون كل أشكال القمع والتنكيل بمعارضيهم.
سادساً، إيجاد شريحة جديدة من المثقفين وصناع الرأي العام، سواء عبر الإعلام أو مراكز الأبحاث الجديدة التي تديرها بشكل كامل أجهزة الأمن والاستخبارات لدى السلطويات العربية. وهناك عملية استثمار هائلة، تجري على قدم وساق في هذا الإطار. وتعج الفضائيات التي تدعم السلطوية بكتاب ومثقفين وخبراء، أو هكذا يُطلق عليهم، يدافعون بجرأة عن الاستبداد، كأنما هو الوضع الطبيعي في مجتمعاتنا. وأحياناً يتحول بعض هؤلاء إلى ملكيين أكثر من الملك، في دفاعهم المستميت عن القمع والعنف الذي يمارس باسم الاستقرار.
سابعاً، الاستثمار في العلاقات الدولية من خلال دعم سردية العجز الديمقراطي العربي، واعتباره القاعدة وليس الاستثناء. ولا يخجل هؤلاء في التقليل من شأن أنفسهم، وتشويه مجتمعاتهم من أجل ترويج هذه السردية وبيعها للغرب، باعتبار أن العرب أمة قاصرة عن حكم
نفسها بنفسها، وأنه لا حل معها إلا بالقوة والقمع. ولا يدخر هؤلاء جهداً في شراء ولاء القوى والأصوات الداعمة لها ولمنطقها غرباً. ولا عجب أن تجد دوماً تحالفاً وثيقاً بين هذه السلطويات وإسرائيل، فكلاهما لا يريد لأي ديمقراطية عربية أن تنشأ وتنهض. بل ازداد الأمر سوءاً بالتحالف بين هذه السلطويات واليمين المتطرّف المعادي للمسلمين في الغرب.
خلاصة القول، بعد أن نجحت السلطويات العربية في امتصاص صدمة الربيع العربي، تسعى الآن جاهدة ليس إلى عدم تكرارها فحسب، وإنما إلى ضمان وجود صمامات أمان سلطوية محلية، يمكنها وأد آمال الحرية والتغيير في مهدها، وذلك قبل أن تنضج وتسعى إلى إطاحتها.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".